حين حلّ رمضان قبل شهور -وأنا في منفاي ذاك الذي اختارتْه لي الدراسة – وأخذ مَن حولي يستقبلونه على أنغام ماهر زين ينادي "رمضان، رمضان رمضان يا حبيب، رمضان رمضان ليتك دوماً قريب"- شعرت بالغربة لأول مرّة تجتاحني كغارة شنّها عليّ الحنين إلى أن أعود طفلة واستند إلى صدر أمّي بعيداً عن صخب الطموح، تلك الغارة التي تستهدف الاستيلاء على صبري.
تذكرت أولئك اللاجئين الذين هجّرتهم الحروب والفتن، وأولئك المساكين الذين قضت عليهم المجاعات والمحن، تذكرت أولئك الشباب الذين سيتهافتون على ديار الرحمة قبيل المغرب ليفطروا بعد أن خذلتهم الرجولة التي عادةً ما تفضّل صالات فتل العضلات على المطبخ، وتذكرت أولئك الذين قطعوا البحار يطاردون أحلامهم وتذكرت شخصاً كان اسمه حمزة وأنا لم أنسَ حمزة، كنت أتساءل عن مدى الذكرى قائلةً: "ترى، كيف يقضي حمزة وأصحاب حمزة رمضان؟".
ورّطك النصيب من اسمك يا حمزة كما لم يورّط عنترة وكما لا أتمنّى أن يخونني النصيب من اسمي.
لم أنسَ "حمزة"، شأني في ذلك شأن ابتسامة طفل عشق زيارات "روبن هود" المفاجئة ليلاً، شأني في ذلك شأن يتيم من طراز "جودي أبوت"، لا يعرف حقيقة صاحب الظل الطويل الذي يتذكره في كل عيد. وعكس جودي التي كانت تراسل "جون سميث" في كل شهر، نحن لا نرسل دعاء لحمزة ولو لمرة في العام. لم أنسَ حمزة كما لم أنسَ شهداء وطني وأبطال حضارتي ورموز التاريخ البشري الذين أثرّوا فيَّ. لم أنسَ حمزة كما لم ينسَ العالم أن يردم حمزة وأصحاب حمزة تحت غبار "نفسي، نفسي".
كذلك، المبنى الذي ما زال يحتوي ذكريات سكانه الذين ماتوا، كذلك الجدار الذي ما زال يحتفظ بخربشات أنامل صبية الحي الذين غادروا، كتلك الكلمات التي ما زالت تحتفظ بموسيقى النهاوند التي عُقد عليها القران ذات يوم في استديو لتسجيل أغنية، كذلك الشجن الذي يتصاعد في صوت فيروز هنالك، حيث لم يبقَ شيء عدا الذكرى تثرثر في حضرة الماضي، لم أنسَ حمزة.
كأطفال قرية إفريقية امتصّت فيتاميناتها كوبرا أميركا وأوروبا وغادرتها للفقر والتخلف والمرض، فلم ينسَها التخلف والفقر والمرض، كبرتقال يافا الذي تغيّر وتحيّر لدى تهجير أهالي العجمي والبلدة القديمة والمنشية وبيت دجن، كخيام روبن المشتاقة إلى أشجار الصفصاف والعليق وكقباب طبريا ورمل عكا الحار المشتاق إلى أقدام أهله، كعصافير الشط الغربي وكضجيج الأطفال في الطالع الأول، كنبض قلبِ ساعة السلطان المشتاقة إلى ثرثرات دراويش الحي.
كتلك الصور المأخوذة من أعالي جبل الكرمل وكتلك الصور الملتقطة من جبال جرجرة والطاسيلي، وكجدران مسجد كتشاوة البالية التي لم تنسَ أهاليها، لم أنس حمزة وأصحاب حمزة.
كجبال الأوراسي أنا؛ كلما ازددت ذكرى ازددت خضرة. وكمشاعرِ ورقّة أديب عربيّ حزين، كلما رأيت الظلم يلتهم حقّاً ازددت حرقة، وكالإنتربول أنا! نعم، كالإنتربول التي لم تستطع لحدّ الآن القبض على الجماعات البوذية المتطرفة بميانمار والقبض على إسرائيل في مطارات فلسطين، أنا أعبر الحدود، غير أنّني لا أقبض على الأبرياء والمجرمين وإنّما أندّد بالظلم في كل مكان.
لن ننتظر جواباً من حمزة، ولم يكن على جودي أبوت أن تنتظر جواباً من جون سميث صاحب الظل الطويل، ولم يكن روبن هود ينتظر شكراً من أهالي شيروود وطيور غابات نوتنغهامشاير، لكن ماذا لو تذكرنا حمزة بالدعاء؟ لا بدّ أنّ حمزة مشتاق إلى دعاء في ظهر الغيب.
سأخبر الغرب بأنّ حمزة كان واحداً من مجموعة "ميري مان" التي أغرقت غابات شيروود بابتساماتها، وأنّه كان بطلاً في حياة جودي أبوت، وأنّه كان روبن هود في أساطيرهم وجون سميث في رواياتهم وحمزة في واقعنا نحن.
كان اسمه حمزة، وكأيّ حمزة يقبع في السجون الظالمة، يحول الظلم بينه وبين مائدة رمضان ومباركات العيد، حيث تلتفّ العائلة حول حبّها واحتوائها ودفئها، ويفصل النسيان بينه وبين دعاء في ظهر الغيب.
كان قرصاناً يختلف عن "الفايكنغ" ويختلف كلّ الاختلاف عن "فيكي"، هو قرصان لم يبحر على متن السفن والقوارب الطويلة ولم تخلّد ذكراه مدينة يورك. هو قرصان لا يسقط على جسر ستامفورد وإنّما ينكسر عند ذاكرتنا نحن التي اخترنا لها أن تنسى حمزة وأمثاله.
أستطيع نسجه لهم في قصيدة إنكليزية قد يؤمنون بها، أستطيع سرده في رواية إنكليزية يمنعها التاريخ من الاندثار ويطويها أبناء حيّها في سجلّ النسيان. أمّا أنا، فلم أنسَ كلّ حمزة، لا أعلم ماذا يفعل الآن في سجن أميركي أو إسرائيلي أو بوذي أو آخر مُعدّ للمجاعة، لم أنسَ كلّ حمزة صنعته حياة الأبرياء.
حمزة لم يسرق، وإن سرق فقد حذا حذو روبن هود الذي كان يحاول استرداد ما نهبه سرّاق الإنسانية وعبّأوا به أرصدة القتلة ودعموا به ظهور الظالمين.
في كل مكان يوجد حمزة وفي كل عصر يظهر حمزة، هناك حمزة بن دلاج الهاكر بطل عصر "الواي فاي"، وهناك حمزة الأسير في سجون إسرائيل، وهناك حمزة المقتول في بورما والصومال وسوريا واليمن والعراق وغيرها، فتذكروا حمزة كل يوم، تذكَّروه بدعاء، تذكروه بحبّ وتذكَّروه بحقّ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.