تعمل روسيا سراً على تعزيز الدعم الاقتصادي لكوريا الشمالية، لمحاولة درء شبح أي حملة قد تقودها الولايات المتحدة للإطاحة بالزعيم كيم جونغ أون؛ إذ تخشى موسكو أن يُضعف سقوطه نفوذَها الإقليمي، ويسمح بنشر قوات أميركية على حدودها الشرقية.
ويقول دبلوماسيون روس ومحللون مطلعون على سياسات الكرملين، إنه رغم رغبة موسكو في السعي لتحسين العلاقات الأميركية الروسية المتعثرة، على أمل تخفيف العقوبات الغربية المفروضة عليها، بسبب أوكرانيا، وذلك على الرغم من تضاؤل هذا الأمل، فإنها لا تزال تعارض بشدة ما تراه تدخلاً من واشنطن في شؤون الدول الأخرى.
وأضافت المصادر، أن روسيا تشعر بالفعل بالغضب من حشد عسكري لقوات حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة على حدودها الغربية في أوروبا، ولا تريد أن يتكرر ذلك على جناحها الآسيوي.
ومع ذلك، ورغم أن لروسيا مصلحة في حماية كوريا الشمالية التي خرجت إلى النور كإحدى الدول التابعة للاتحاد السوفيتي السابق، فإنها لا تترك الحبل على الغارب لبيونغ يانغ، فقد أيَّدت تشديد عقوبات الأمم المتحدة على كوريا الشمالية، بسبب اختباراتها النووية الشهر الماضي.
وفي الوقت نفسه تلعب موسكو لعبة مزدوجة بمدِّ حبل نجاة سراً لكوريا الشمالية، لحماية نفسها من الجهود الأميركية لعزلها اقتصادياً.
وبدأت شركة روسية هذا الشهر نقل حركة الاتصالات عبر الإنترنت في كوريا الشمالية، لتتيح بذلك لبيونغ يانغ منفذاً ثانياً للاتصال بالعالم الخارجي بخلاف الصين.
وتوضح بيانات وزارة تنمية الشرق الأقصى الروسية، أن التجارة الثنائية تجاوزت المثلين لتصل إلى 31.4 مليون دولار في الربع الأول من العام الجاري، لأسباب على رأسها ما قالت موسكو إنه زيادة في صادرات المنتجات النفطية.
فقد عادت ثماني سفن كورية شمالية على الأقل، بعد إبحارها من روسيا بشحنات وقود هذا العام إلى بلادها، رغم أنها أعلنت رسمياً عن وجهات أخرى، مستخدمة حيلة يقول مسؤولون أميركيون إنها تستخدم كثيراً للحد من أثر العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ.
كما أن روسيا، التي لها حدود برية مشتركة قصيرة مع كوريا الشمالية، قاومت الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإعادة عشرات الآلاف من العمال الكوريين الشماليين، الذين تُمثل تحويلاتهم مصدرَ دخل رئيسي لبلادهم.
وقال أندريه كورتونوف، رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية، وهو مركز أبحاث تربطه صلات وثيقة بوزارة الخارجية الروسية "الكرملين يعتقد حقاً أن قيادة كوريا الشمالية يجب أن تحصل على تأكيدات إضافية، وثقة بأن الولايات المتحدة ليست مهتمة بتغيير النظام".
وأضاف: "احتمال تغيير النظام مصدر قلق شديد. فالكرملين يدرك أن (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. وكان يشعر بأمان أكبر في وجود باراك أوباما، أنه لن ينفذ أي تصرف يفجر الوضع. لكنه في وجود ترامب لا يعرف" ما قد يحدث.
فترامب يسخر من الزعيم الكوري الشمالي، ويصفه بأنه "رجل الصواريخ" الذي ينفذ مهمة انتحارية. وقال أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، إنه سيُدمِّر كوريا الشمالية تماماً، إذا اقتضت الضرورة.
كما قال إن كيم جونغ أون ووزير خارجيته لن يبقيا على قيد الحياة لفترة طويلة إذا نفّذا التهديد بتطوير صاروخ قادر على حمل رأس نووي، يصل مداه إلى الولايات المتحدة.
الحدود الاستراتيجية
الثابت أن علاقات بكين الاقتصادية مع بيونغ يانغ لا تزال أكبر بكثير منها مع موسكو، وأن الصين لا تزال طرفاً أقوى بكثير في الأزمة النووية التي ما زالت تتكشف فصولها.
غير أنه في الوقت الذي تُقلِّص فيه بكين تجارتها مع تشددها فيما يتعلق بالبرنامج النووي والصاروخي لكوريا الشمالية، فإن روسيا تعمل على زيادة دعمها لبيونغ يانغ.
وتقول مصادر مطلعة على اتجاهات التفكير داخل الكرملين، إن السبب في ذلك يرجع إلى أن روسيا تعارض تغيير النظام في كوريا الشمالية معارضة مطلقة.
واتهم ساسة روس الولايات المتحدة مراراً بالتآمر لنشر ثورات في مختلف أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق، وأي حديث أميركي عن خلع أي زعيم مهما كانت الأسباب، يثير حساسية سياسية في موسكو.
وتم التدريب خلال مناورات عسكرية مشتركة أجرتها روسيا مع جمهورية روسيا البيضاء، الشهر الماضي، على سيناريو تخمد فيه القوات الروسية محاولة مدعومة من الغرب لانفصال جزء من روسيا البيضاء.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الروسية، في مارس/آذار المقبل، تجدد قلق الساسة من التدخلات الغربية.
وفي عام 2011 اتهم الرئيس فلاديمير بوتين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية حينذاك بمحاولة إثارة القلاقل في روسيا، وأوضح أنه يريد من الولايات المتحدة أن تترك كيم جونغ أون وشأنه.
ورغم أن بوتين أدان بيونغ يانغ، لما وصفه بتجاربها النووية الاستفزازية فقد قال في منتدى، الشهر الماضي، في ميناء فلاديفوستوك بشرقي روسيا، إنه يتفهم المخاوف الأمنية لدى كوريا الشمالية من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
وتبعد فلاديفوستوك مقر الأسطول الروسي في المحيط الهادي حوالي 100 كيلومتر فقط عن حدود روسيا مع كوريا الشمالية.
وستعارض روسيا بشدة نشر أي قوات أميركية بالقرب منها، إذا ما أعيد توحيد الكوريتين.
وقال بوتين في المنتدى الاقتصادي، إن كوريا الشمالية "تدرك تماماً كيف تطور الوضع في العراق"، مضيفاً أن واشنطن استخدمت ذريعة كاذبة أن بغداد لديها أسلحة دمار شامل لتدمير العراق وقيادته.
وأضاف: "إنهم يدركون كلَّ ذلك، ويرون أن امتلاك الأسلحة النووية وتكنولوجيا الصواريخ هو الشكل الوحيد لديهم للدفاع عن النفس. فهل تعتقدون أنهم سيتخلّون عن ذلك؟"
ويقول المحللون، إن وجهة النظر الروسية هي أن تحول كوريا الشمالية إلى دولة نووية اكتسب صفة الدوام، على الرغم من عدم اكتماله، وإنه أمر لا يمكن الرجوع فيه، وإن أفضل ما يمكن للغرب أن يرجوه هو أن تجمد بيونغ يانغ عناصر في برنامجها.
مسألة غير شخصية
قال كورتونوف، رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية، إنه لا يعتقد أن دفاع الكرملين عن كيم جونغ أون قائم على أي عوامل شخصية، أو دعم لقيادة كوريا الشمالية، وشبّه التأييد العملي الذي تقدمه موسكو بمساندتها للرئيس السوري بشار الأسد.
وأضاف أن الدافع وراء موقف موسكو هو الاعتقاد بأن الوضع الراهن جعل من روسيا طرفاً له نفوذ على الصعيد الجيوسياسي في الأزمة، بسبب علاقاتها الوثيقة مع بيونغ يانغ، مثلما منح الدعم الروسي للأسد، موسكو نفوذاً أكبر في الشرق الأوسط.
وقال إن موسكو تعلم أنها ستخسر نفوذها الإقليمي إذا سقط كيم جونغ أون، مثلما أصبح نفوذها في الشرق الأوسط مهدداً، عندما بدا أن متطرفين إسلاميين قد يطيحون بالأسد عام 2015.
وتابع: "من ناحية لا تريد روسيا الخروج عن خط شركائها، وبصفة خاصة الموقف الصيني من كوريا الشمالية الذي يزداد تشدداً. لكن الساسة في موسكو يدركون من ناحية أخرى أن الوضع الحالي ومستوى التفاعل بين موسكو وبيونغ يانغ يضع روسيا في مكانة منفصلة بالمقارنة مع الصين".
وأوضح أنه إذا قُدر للولايات المتحدة أن تعزل كيم جونغ أون بالقوة، فإن روسيا قد تواجه موجة لاجئين، وأزمة إنسانية على حدودها، في حين أن الأسلحة والتكنولوجيا التي تطورها كوريا الشمالية قد تقع في أيدي جهة أكثر خطورة.
ولذلك، ورغم أن روسيا تدعم تشديد العقوبات على بيونغ يانغ دعماً فاتراً فإن بوتين يريد أن ينمو اقتصادها، وينادي بإشراكها في مشروعات مشتركة مع دول أخرى في المنطقة.
فقد قال في قمة فلاديفوستوك، الشهر الماضي: "نحن بحاجة لدمج كوريا الشمالية تدريجياً في تعاوننا الإقليمي".