لعنة الوحدة!

ربما أقسى ما قد يصل إليه أحدُنا يوماً هو أن تدفعه قسوة الحياة ليُقِر بكونه وحيداً. يرى نفسه من بين كل هذه الجموع والثنائيات وحيداً تماماً؛ فلا أحد يُشبهه ولا يملك شيئاً ليجتذب به رفيقاً ينعم معه بدِفء الصُحبة ويذوق في رحابه أُنس الرفيق.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/04 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/04 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش

في كل ليلة يُسدل الليل فيها ستائره على الكون تبدو الحياة لصاحبنا قاتمةً وكئيبةً.

ينظر إلى السماء فوقه فيراها كخيمةٍ سوداء تتخللها بعض الثقوب المُضيئة، يتلمسُ دِفْء التقارب بين الثقوب فيذوب قلبه البارد من دِفئها وَلهاً.

يُقلب وجهه فى السماء طائفاً حول هذا الدِفء عساه يذوقه ولو كان وهماً.

يقتفي طيف التقارب بين النجوم فتصدمه نجمةٌ وحيدة فى آخر الأفق؛ تردعه لوضعه القائم فيعود حزيناً.

يتلمس قلبه الفارغ من دِفء الصحبة وأنس الرفيق ليجدهُ مترعاً بالحزن والألم، يعود لنجمته واهِناً ليتساءل: أنا وحيد وأنتِ وحيدة وخلف صخب الثنائيات دوماً هُناك من يرتجفُ وحيداً فلماذا إذاً لا نلتقى ليُضمد أحدُنا جُرح الآخر؟

ربما أقسى ما قد يصل إليه أحدُنا يوماً هو أن تدفعه قسوة الحياة ليُقِر بكونه وحيداً. يرى نفسه من بين كل هذه الجموع والثنائيات وحيداً تماماً؛ فلا أحد يُشبهه ولا يملك شيئاً ليجتذب به رفيقاً ينعم معه بدِفء الصُحبة ويذوق في رحابه أُنس الرفيق.

يتلمسُ الوَحشة فى قلبه ليجدها كرجفةِ عصفورٍ فى المطر لا يملك رفيقاً ليُخبره أين يذهب، يتفقد دائرته فلا يجد سواه، لا يزيد عن كونه جسداً يشغل حيزاً فى فراغ، حلقة فى دائرة مُفرغة؛ حلقة وحيدة تسير بلا وِجهة ولا هدف.

لا ينتظر شيئاً من أحد ولا أحد يعبأُ به، ربما تراهُ صامتاً فتحسبه آنِفاً من الدِفء فتتفاداه -آسِفاً كُنت أو غاضباً- بينما جميع أركانه تنتفض أنْ أبقى هُنا، فأنا وحيد!

ربما كانت من أكثر اللفتات واقعية فى فيلم " Cast Away " عندما سقطت الطائرة على جزيرة معزولة وبينما "نولاند /توم هانكس"، يُحارب من أجل البقاء، ويبحث عن أبجديات الحياة من طعام ومسكن باحثاً فيه عن الأمان كان الأنس أيضاً من أبجدياته الفطرية المفقودة فى هذه الجزيرة، فهدته فطرته لصناعة رفيق من كرة طائرة سماه "Wilson" تقاسم معه قسوة الحياة.

كان يُحاكيه ويُخبره آلامه، يُخبره أنه يشتاق يصُب عليه غضبه ويشعر بعدها بالذنب تجاهه فيحنو عليه، يستأنس به ويتألم لفقدانه، بل بكى حينما باعدت الأمواج بينه وبين رفيقه، فقد امتلأ بالامتنان لذاك الرفيق الذي حال بينه وبين الوِحدة بكل ما تُدثره أحرفها من ألم.

لكلٍ منّا Wilson ولكن بالشكل الذي يُناسبه، جميعنا مشطور الروح يحتاج دوماً إلى الآخر ليتفادى به الوِحدة، ربما يفّر أحدنا بكتاب، أحرفٍ يستحضرها ليستأنس بها، لوحة فنية يبث فيها خلجات نفسه وغير ذلك الكثير من صور Wilson المتعددة.

ولكنّي لا أدري من كان رفيق الثلاثة الذين خُلّفوا من غزوة تبوك حينما اقتضى أمر الله عليهم بالوِحدة، فالله يُعاقبهم والنبي يُقاطعهم والرِفاق مأمورون بالامتثال لأمر الله، وزوجة الرجل منهم لا تَحلُ له بأمرٍ من الله.

جميع الأبواب مُغلقة والعذاب يتمدد حتى دام لمدة خمسين يوماً أُنهكت فيها الأرواح و"ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ"، ثم عفا الله عنهم؛ لنُدرك بعدها أن الوحدة هي السوط الأقوى والأعلى صوتاً دائماً وأبداً.

إن الوِحدة هي الألم الأكثر برودًا والأحّدُ غِلظة على الروحِ والجسد .الوِحدة هي ألا تسمعُ صوتًا غير صداك يتردد فى الأركان ، ألا تجد من يُقاسمك حديثا أو طعامًا أو يتشارك معك الهواء . الوِحدة ألا تجدُ من يُشاركك لحظات ضعفك فيُخفف عنك قسوة الحياة لتهون عليك وعليه . الوحدة أن تمُن عليك الحياة بفرحٍ جديد فتبحث عن أحدهم لتُخبره فلا تَجِد !

أنْ يضيق الصدر ويُرهَقُ الكاهل بالألم وتتفقد مَن حولك باحثًا عن رفيقٍ يُشاطرك فلا تجد وإن وَجدت لا يسمعك وأن سمِعك -مُلاطفةً منه – لا يفهمك. الوحدة هي الألم الأكثر أنواعًا لكنّ أشدها على الإطلاق أن تُفقر بالاستغناء عن الله فتصير وحيدًا ،تفقد المعية وينقطع عنك وصلُ السماء فتتصدع روحك و تلتهمك أحزانك فتُصاب باللعنة !

الوِحدة هي اللعنة التى لا تنتهى ،هى السجن الذى يصحب صاحبه حين ينام ،حين يقوم ، حين يجتمع بالناس و حين يقترب منه أحد . الوِحدة هى آفةُ صاحبها وداؤه العُضال فلا شفاء منه ولا نجاة إن لم يستجب لغريزة الأنس بداخله ويدرك أنها لن تستكين لوضعِها القائم فإما أن يُؤويها ويُقاتل دونها أو أن يستسلم لوحدته فتموت روحه بين شِقى الرحي !

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد