كان العالم يتوقع اندلاع حرب بسبب استفتاء كردستان العراق، والمفارقة أن الوضع قد يبدو للمتابع أن الخلاف بين كتالونيا وإسبانيا الديمقراطية العريقة بات أكثر توترا بين الخلاف العراقي مع الأكراد.
فبعد تصويت أكراد العراق لصالح الاستقلال، نزلوا إلى الشوارع، ولوَّحوا بالأعلام ونفخوا بالأبواق، وسخروا عالياً من تهديدات بغداد بالتحرُّك عسكرياً. وقد ألغى العراق الرحلات الجوية في الإقليم، وأرسل رجال دركه إلى الحدود الكردية، في حين هدَّد جيرانه بتدخلٍ اقتصادي وعسكري.
لكن بعد أكثر من أسبوع على ذلك، لم يتخذ الأكراد خطوات فعلية من أجل إعلان الاستقلال، ولم تقم بغداد وحلفاؤها بأي شيء لتنفيذ التهديدات بالتدخُّل. وكان الاستفتاء على الاستقلال لحظة حاسمة في كفاح الأكراد الطويل للحصول على وطن، لكن لا بغداد ولا الأكراد يبدون عازِمين على تحويل تلك اللحظة إلى أزمة، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
فلا يزال النفط الكردي يتدفَّق، برغم تهديدات الأتراك بإغلاق خط أنابيب حيوي، ولا تزال قوات البيشمركة الكردية تقاتل إلى جانب التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، ولا تزال حدود الإقليم مفتوحة، ونظرت كافة الأطراف إلى المناورات التي قامت بها تركيا وإيران باعتبارها لا تعدو أن تكون مجرد إثبات موقف.
مناورات عسكرية وحدود مفتوحة
وفي يوم الإثنين، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قامت إيران بعرضٍ استعراضي لنقل دباباتها القتالية إلى معبر برويز خان الحدودي الحيوي مع كردستان، لكن الحدود بقيت مفتوحة أمام مرور المدنيين كما المعتاد.
وجرى هذا الأسبوع تخفيف أقسى إجراءات بغداد، المتمثلة في الحظر الذي فرضته الجمعة الماضية، 29 أكتوبر/تشرين الأول، على الرحلات الدولية من وإلى مطارات كردستان الدولية، حين أعلنت السلطات أنَّها ستسمح للرحلات الجوية من كردستان بالمرور عبر بغداد.
وفي المقابل، قررت بغداد فرض إجراءات عقابية جديدة رداً على الاستفتاء الشهر الماضي، وبفرض عقوبات على البنوك الكردية ووقف تحويلات العملات الأجنبية إلى المنطقة الكردية.
كما رفض مجلس النواب العراقي عودة النواب الأكراد إلى حضور جلسات المجلس، وإنهاء قرار المقاطعة الذي اتخذوه على خلفية رفض البرلمان قرار استفتاء إقليم كردستان العراق، حسب تقرير لـ"بي بي سي".
سر التصعيد
ورغم أنَّ هناك قضايا وجودية على المحك -مثل إمكانية قيام دولة كردية مستقلة وتقسيم العراق- ربما تصرَّف الجانبان على نحوٍ استفزازي بسبب الاعتبارات السياسية المحلية جزئياً على الأقل.
بالنسبة للأكراد، نظر المنتقدون إلى توقيت الاستفتاء باعتباره محاولة من رئيس حكومة إقليم كردستان، مسعود البارزاني، لتعزيز شعبيته داخلياً وصرف الأنظار عن مشكلات الإقليم الاقتصادية.
وفي هذا الإطار، أعلن إقليم كردستان العراق، الثلاثاء 4 أكتوبر/تشرين الأول 2017، عن تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، مع تحرك قيادة الإقليم للاستفادة من الاستفتاء الذي منح دعماً قوياً للاستقلال.
وبالنسبة لبغداد، كان يُنظَر إلى رد الفعل القاسي من جانب رئيس الوزراء حيدر العبادي باعتباره محاولةً لاسترضاء المتشددين الشيعة، الذين طالبوا بردٍّ شديد على الاستفزاز الكردي.
ويواجه كلا الزعيمين استحقاقاتٍ انتخابية في الأشهر المقبلة. والآن، وبعد أن أوضحا موقفيهما، يبدو أنَّ كليهما مستعد للتراجع عن حافة الهاوية.
انهيار أحلام البارزاني
وقال سعد الحديثي، المتحدث باسم العبادي، في مقابلةٍ الثلاثاء، 3 أكتوبر/تشرين الأول، إنَّ الحكومة لم تُنفِّذ معظم تهديداتها حتى الآن، كي تمنح الأكراد "كل الفرص للتراجع عن موقفهم".
وقال: "لا ترغب الحكومة في إثارة الموقف. ونعتقد أنَّهم سيتراجعون".
لكنَّه أصرَّ على أنَّ الحكومة لديها جدول زمني لإجبار الأكراد على تسليم السيطرة على حدودهم ودخلهم من النفط، لكنَّه رفض تقديم تفاصيل.
وتُعَد الفصائل الشيعية المتشددة المتحالفة مع إيران كتلة انتخابية قوية في العراق، والعديد منهم داعمون لخصم العبادي البارز، نائب الرئيس نوري كامل المالكي. ويساعد التهديد باتخاذ إجراءات قاسية ضد الأكراد العبادي على دعم قاعدته الشيعية.
فقال علي العلاق، النائب البارز بمجلس النواب العراقي وأحد المقربين من العبادي: "إنَّها استراتيجية طويلة المدى". وستقطع بغداد صادرات كردستان وعائداته إلى أن يستسلم الإقليم. وقال: "في النهاية، ستأتي العائدات ويبقى السيد البارزاني دون شيء وستنهار أحلامه".
لا يملكون قوة عسكرية
من جانبهم، يقول الأكراد إنَّهم لم تكن لديهم نية أبداً لأن يُتبِعوا الاستفتاء بإعلانٍ فوري للاستقلال.
وقال هوشيار زيباري، وزير الخارجية العراقي السابق ومهندس الاستفتاء الكردي: "أجرينا الاستفتاء لأنَّنا فقدنا الثقة، لقد كُنَّا نحارب وضعاً بائساً من أجل بلدٍ ضائع. لكنَّ ذلك لا يتبعه تلقائياً إعلان إقامة الدولة في اليوم التالي. فشروط ومتطلبات بناء الدولة أكثر صعوبة بكثير من إجراء استفتاء في الـ25 من سبتمبر/أيلول. ذلك لن يحدث بين عشيةٍ وضحاها".
وقال فاهال علي، مدير الاتصالات بمكتب البارزاني: "لن يحدث تدخُّل عسكري. أولاً وقبل كل شيء لأنَّهم لا يمتلكون أي قوة عسكرية".
وبالإضافة إلى ذلك، العراقيون منشغلون بالمعركة ضد تنظيم (داعش)، والتي يعتمدون فيها على التعاون مع القوات المسلحة الكردية.
والحقيقة هي أنَّ أيَّاً من الجانبين لا يرغب في مواجهةٍ عسكرية، كما يقول جوست هيلترمان، خبير الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية.
وكتب هيلترمان في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني: "إذا تفاقمت الأمور، سيكون ذلك بسبب تطوُّر دينامية معينة"، وليس بالضرورة لأنَّ العبادي يرغب في تفاقهما. وأضاف: "لا أعتقد أنَّنا قريبون حتى من تلك المرحلة".
وخلف الكواليس، كان الدبلوماسيون الغربيون يعملون من أجل تهدئة الغضب لدى كلا الجانبين، والحفاظ على التحالف ضد داعش. وعبَّر دبلوماسيون عن تفاؤلهم من عدم تفاقم أزمة الاستقلال إلى صراعٍ مباشر، على الأقل حتى الآن.
السيستاني
وجاء اختراقٌ في الأزمة من مصدرٍ غير متوقع، تمثَّل في خطبة الجمعة الماضية من الزعيم الشيعي النافِذ آية الله علي السيستاني. إذ انتقد آية الله السيستاني بشدة فكرة إقامة دولة كردية مستقلة، لكن في الوقت نفسه دعا لإجراء حوار، ودعا بغداد لاحترام حقوق الأكراد.
وكتبت رندا سليم، مديرة تسوية النزاعات بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن: "في حين جعل السيستاني انخراط العبادي في حوارٍ مع أربيل آمناً من الناحية السياسية، فقد جعل انفصال كردستان خطاً أحمر لا يمكن لبغداد تجاوزه". ومنح البيان الأمل لكلا الطرفين، ونزع فتيل التوتر بينهما.
هل تراجعت تركيا وإيران؟
ولم تتمكن أيضاً تركيا وإيران، اللتان عارضتا الاستقلال الكردي خوفاً من خطواتٍ مماثلة بين صفوف الأقليات الكردية الموجودة بالدولتين، من متابعة تهديداتهما القوية، التي تضمَّنت القيام بمناوراتٍ عسكرية على الحدود والعزلة الاقتصادية.
وتركيا على وجه الخصوص تملك أكبر تهديدٍ للتسبُّب في اضطراب الاقتصاد الكردي، والقدرة على إغلاق خط الأنابيب الذي ينقل النفط الكردي، الذي يمر عبر تركيا ويُوفِّر أكبر مصادر الدخل لحكومة إقليم كردستان.
وقال وزير الاقتصاد التركي، نهاد زيبكجي، للصحفيين في عطلة نهاية الأسبوع، إنَّ "العمل سيبقى كالمعتاد". وفي تصريحاتٍ، الأسبوع الماضي، وصف الحديث عن حصارٍ اقتصادي باعتباره "خطاباً خطيراً"، وقال إنَّ أي عقوباتٍ اقتصادية ستضر تركيا بقدر ما تضر بإقليم كردستان.
وقال: "إنَّنا نتحدث عن تجارة تبلغ 8 إلى 9 مليارات دولار وعن مصلحة تركيا".
وتمتَّع الأكراد طويلاً بحكمٍ ذاتي واسع في إقليمهم الواقع شمالي العراق، وهو ما رآه الكثيرون استقلالاً بحكم الأمر الواقع؛ إذ تولوا إداة شؤونهم الدفاعية والخارجية، وصدَّروا نفطهم الخاص.
وحتى الآن، لم تفاقم أزمة الاستقلال الأزمة الاقتصادية الكردية بشكلٍ ملحوظ، باستثناء الصناعات التي تخدم الزوار الأجانب، مثل الفنادق. فقالت روزا مصطفى، وهي مُنسِّقة مبيعات في فندق روتانا الفخم في أربيل، إنَّ واحداً من فنادق الشركة، فندق أرجان روتانا، كان لديه "زائر واحد أو زائران" في غرفه الـ165، نتيجةً لحظر السفر.
وستقود المخاوف بشأن الاستفتاء إلى موجة شراءٍ بدافع الذعر في بلدٍ يعتمد بشدة على السلع المستوردة، وربما يؤدي حتى إلى تداعياتٍ تؤثر على البنوك، لأنَّ إقليم كردستان لا يمتلك بنكاً مركزياً خاصاً به، ولم يحققه بعد، ولا يزال جزءاً من النظام المالي والعملة العراقية.
وفي بنك بيبلوس في أربيل، قالت مديرة الفرع "لارا أزامات"، إنَّ عدداً قليلاً فقط من أصحاب الحسابات الصغيرة نسبياً سحبوا أموالهم بدافع الذعر. وقالت: "في عام 2013، خلال تقدم داعش، كان الكثير من الناس خائفين وسحبوا أموالهم. الآن، بعض الحسابات الصغيرة سحبت أموالها، لكنَّ الحسابات الكبيرة لا تزال موجودة".
وفي الواقت الراهن، على الأقل، يعتقد القادة الأكراد أنَّ بإمكانهم مواجهة العاصفة.
فقال زيباري: "حتى الآن، لا يزال الأمر داخل حدود ما توقعناه. إنَّه ليس أمراً يخلو من المخاطرة، لكنَّنا مستعدون للتبعات".