الصراع الأزلي التراجيدي بعض الشيء بين الخير والشر سُنة هذا الكون، ذلك الصراع الذي عرفناه مذ كنا صغاراً، تلخص لنا حينها في أفلام الأبطال الخارقين، وترسخ في عقولنا الصغيرة تلك بأن الشر هو الخاسر المطلق، والأبطال الخارقين هم أصحاب الانتصار دائماً.
أما الآن فلربما انبثقت لنا من واقعنا تلك الحقيقة، وأيقنا بفضل نوبات الحياة ونوائبها أن الشجعان ليسوا أصحاب الظفر دائماً، وأن هذا العالم لا يمقت الأوغاد بالقدر الذي كنا نظن!
المفارقة هنا هي أن يجمع مكان بين النقيضين في آن واحد، أن يتمثل لك الشر كشيطان قد نبت في تلك الأرض فألفها، والخير كإحدى تلك الأشجار العتيقة التي ترفض أن تزعزعها رياح هوجاء.
أن ترى تلك الأرض كمهواة لكل معاني الخير، وكرادعة بجمالها الخلاب لكل براثن الشر.
صِقلية، ربما ما يتبادر إلى أذهاننا عند ذكر ذلك الاسم بعض قصص عصابات المافيا وعائلة الدون كورليوني وما شابه، لكن دائماً ما يبقى تمعن حال تلك الجزيرة خير مثال على متناقضات الحياة.
صقلية، المدينة الخافتة كما أحب أن أسميها هي كتلك التي تمتلك جمالاً ساحراً، لكنها بطبعها هادئة، ليست من هؤلاء الذين يمتلكون دلالة التأثير اللحظي وجذب الانتباه، لديها ذلك السكون الذي يمنحك الاطمئنان، لحظياً ربما، لكنها تثبت رغم هذا أنها ما زالت ها هنا.
صقلية المتناقضة التي أسلمت حيناً وشهدت فتحاً، ثم انتكست بعد ذلك لعصور من الخوف، عندما تهيم في تلك الأرض اليباب محاولاً أن تتيقن صدق ما سمعت من أساطير المافيا والقتلة المخيفين، تتساءل تلقائياً: كيف سُول لأحد إرهاق قطرة دماء على تلك الأرض؟ مَن ذاك العاقل الذي يفعل؟!
تنظر يميناً فتجد كروم العنب قد اشتد وهجها كالياقوت، وذاك الشعاع الخافت نجح في التسلل متخفياً من وراء أحد تلك التلال؛ لتجد بعدها حقول الزيتون الخضراء وأطفالاً صغاراً قد علا صوت لهوهم، فأصبح كتلك الترانيم التراثية الجميلة.
تتعجب حقاً، كيف لجرائم وحشية أن ترتكب هاهنا؟ ألم تأن قلوبهم؟
أم عجزت معزوفات صقلية التي تغني للسلام والحب، أكانت قاصية كل هذا الحد رغم تعلقها بأسماعهم فلا تصل إلى قلوبهم؟!
ألم يستطِع ذلك القمر الرابض في السماء أن ينير ما قد عمي من أبصارهم عن البهاء الذي قد منح لهم!
يا لهؤلاء الحمقى! حتى إتنا مع كل ثوران جديد يأبى أن يحرق ولو زهرة واحدة من أزهار تلك الكروم، ينتظر لهيبه حتى يصبح رماداً، ثم ينهمر على تلك الأرض محتضناً إياها فلا يؤذيها!
يتساءل أحدهم: وماذا عن أهل صقلية؟ أين هم من كل ذلك؟
أهل صقلية هكذا يا رفيق، سيجتمعون للغناء للسلام وضوء القمر بطلوع الفجر، وفي الليل سترتفع أصوات طلقات أسلحتهم طلقة تلو الأخرى كأنها آخر دقات نبض يصارع الموت، يتسلل خفياً داخل تلك الأزقة مرتكباً جريمته ثم يهرع إلى تلك الأمواج؛ ليغتسل من آثار الدماء، ليعود بين الناس ذلك الشريف كما كان!
وماذا عن إتنا إذن؟
سيثور إتنا صباحاً ليس لمقتل أحدهم، بل لأنه لم
يعد يحتمل كل هذا الرياء بعد.
أما أهل صقلية فسيفزعون من ثورانه من جديد في الصباح، وبحلول المساء سيجتمعون لاختيار "الدون" الجديد.
وبين هذا وذاك ستظل صقلية الحسناء تترنح هاهنا تارةً وتارةً، فإياك أعني واسمعي يا جارة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.