يبدو أن موسكو بدأت فعلياً بلعبة سياسية خفية أكثر حذراً في سوريا، تحت مبدأ جمع كل اللاعبين الرئيسيين حول تسوية مؤقتة للصراع. فهي تظهر مبادرات جديدة لحفظ السلام في سوريا، التي تستند في معظمها إلى مفاوضات دبلوماسية سرية أحياناً، بما فيها اتصالاتها التي كثفتها مع الأكراد.
وتقول صحيفة نيزافيسيمايا الروسية، الإثنين 2 أكتوبر/تشرين الأول 2017، إنه لعديد من الأسباب لم يكن تحقيق ذلك سهلاً. وتتمثل هذه الأسباب، أولاً في اختيار أسلوب خاطئ للتواصل مع الأكراد، ثانياً، استمرار موسكو في رفض منح اللجوء السياسي لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، ما أثر على طبيعة العلاقات الكردية الروسية. ونتيجة لذلك، قررت موسكو إشراك ممثلين مؤثرين من الشتات اليزيدي في روسيا في المفاوضات مع الأكراد.
والجدير بالذكر، أن هذه الاتصالات بين الأكراد والروس، تثير قلق دمشق، إذ إن السوريين يشيرون إلى أن "شكل العلاقات الكردية الروسية قد يتطور ليتحول إلى تعاون عسكري". ومن هذا المنطلق، يبدو جلياً أن لعبة القيادة الروسية في سوريا، ليست في سبيل الحفاظ على نظام الأسد، وإنما لضمان مصالحها في منطقة الشرق الأوسط أساساً، وفق ما ذكرت الصحيفة.
موسكو تبرز عضلاتها بالشرق الأوسط
في 25 سبتمبر/أيلول 2017، قال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إن بلاده تعمل إلى جانب كل من روسيا وإيران على إنشاء منطقة وقف تصعيد في مدينة عفرين السورية، التي يسكنها الأكراد بشكل رئيسي.
وفي هذا السياق، أشار الجانب التركي إلى المسألة بوضوح، لكن، السؤال المطروح هو ما الذي سيحدث إذا ظهرت منطقة وقف تصعيد خامسة في منطقة عفرين؟
في الواقع، سيؤدي ذلك إلى إدراج الأكراد تلقائياً في مفاوضات أستانا، كما سيتم إشراكهم في الحوار مع موسكو. في كل الحالات، سيكون ذلك في خدمة المصالح الروسية، حيث إن موسكو لا تتوانى عن محاولات إبراز عضلاتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط، ناهيك عن أنه سيساهم في مشاركة المزيد من اللاعبين الفاعلين في سوريا في الحوار من أجل التسوية السورية.
وتقول الصحيفة، إنه بالنسبة لواشنطن فإن ذلك يمثل فرصة لخدمة مصالح التحالف الكردي-العربي "قوات سوريا الديمقراطية"، وسيسهم في ظهور وسائل ضغط جديدة على دمشق، في سبيل إضفاء شرعية لوجود هذه القوات. أما بالنسبة لتركيا فهذا دليل على المرونة السياسية الروسية.
فض الاشتباك لا يعني وقف التصعيد
قبل بضعة أسابيع، تحديداً في السادس من سبتمبر/أيلول، ذكرت الصحف أن رئيس مديرية العمليات الرئيسية لهيئة الأركان العامة الروسي، سيرغي رودوسكي، أكد أنه "في سبيل منع الاستفزازات والاشتباكات بين قوات الجيش السوري الحر المتمركز في شمالي سوريا والميليشيات الكردية في مدينة تل رفعت السورية، تم خلق منطقة لفضِّ الاشتباك. كما حلت الجماعات المسلحة الكردية محل القوات الحكومية السورية والشرطة العسكرية الروسية هناك".
ولكن، لا ينبغي الخلط بين مناطق فض الاشتباك وبين مناطق وقف التصعيد الأربع التي اقترحتها روسيا في محادثات أستانا، حيث تم تحديد مواقعها بمشاركة العديد من الأطراف الفاعلة في المنطقة. خلال هذه السنة، تم خلق منطقة لفض الاشتباك في شمالي سوريا في مدينة منبج.
وفي فبراير/شباط، دخلت القوات الخاصة الأميركية لمنع توسع عملية "درع الفرات" في قرى شمالي وغربي المدينة. ولكن بعد بضعة أيام من موافقة روسيا والمجلس العسكري في منبج، تم إرسال مجموعة من القوات الروسية مع مساعدات إنسانية هناك، كما تم نشر حرس الحدود السوريين الذين تم سحبهم من هناك في يونيو/حزيران.
فضلاً عن ذلك، كانت هناك حدود لمناطق فض الاشتباك تم وضعها بين روسيا وتركيا على الطريق السريع آم-4، خلال القتال بالقرب من مدينة الباب السورية. كما عملت كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية على رسم الحدود بين الميليشيات الكردية والنظام السوري في محافظة الرقة لمنع النزاع بينها.
وفي هذا الصدد، من الواضح أن مناطق فض الاشتباك تختلف عن مناطق وقف التصعيد من الناحية الزمنية. فعلى سبيل المثال، في حال تم تحويل منطقة عفرين إلى منطقة وقف تصعيد فإنه سيتم تشكيل منطقة عازلة في تل رفعت، في إطار محاولة وضع سلسلة واضحة من الإجراءات.
وترى الصحيفة أن العملية التركية بالتالي، ستكون موجَّهة نحو محاولة إضعاف الجماعات الكردية في مدينة عفرين.
وتقول إن ذلك قد ينعكس على الولايات المتحدة، وإنه في حال قامت تركيا بالدخول إلى إدلب من مقاطعة هاتاي، فإن ذلك سيُسهم في تشكيل منطقة عازلة جديدة. كما أن ذلك قد يحول منطقة تل رفعت إلى ممر يربط بين منطقتي نفوذ تركيتين (إدلب وشمالي حلب)، حسب قولها.
مشهد القوى الديمقراطية السورية
في الحقيقة، لا يكلف انسحاب القوات الكردية من منطقة فض الاشتباك في تل رفعت الأكراد خسائر إقليمية حقيقية. وفي وقت سابق، تم عقد مفاوضات بين التحالف الدولي و"لواء المعتصم" التابع للجيش السوري الحر، بهدف تسليم "قوات سوريا الديمقراطية" لعدد من المدن والقرى بريف حلب الشمالي؛ أبرزها مدينة تل رفعت إلى "اللواء". لكن لم تبدِ القوات الكردية أيَّ تفاعل مع الجيش السوري الحر.
من ناحية أخرى، تعمل القوات العسكرية السورية والروسية على حماية الأكراد. ولذلك معنى خاص، خاصة في خضم الخسائر التي طالت تنظيم الدولة في الشرق وسباق القوى الإقليمية للسيطرة على حقول النفط هناك؛ أي بين الميليشيات الموالية للحكومة والقوات التي تحظى بدعم الولايات المتحدة الأميركية وأهمها الأكراد.
وفي هذا السياق، يكتسب "السباق" السوري المقبل من وجهة نظر روسية دلالات سياسية واضحة، ومن المتوقع أن تنجح روسيا على المدى المتوسط في تحقيق النجاح على الضفة اليسرى من نهر الفرات، في المنطقة الحدودية السورية. وهي مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لموسكو. كما أن طهران تعتزم خلق جسر في هذه المنطقة يمر من خلال العراق وسوريا إلى لبنان.
فماذا تريد موسكو في خضم هذا؟ في حقيقة الأمر، من الواضح أن روسيا تسعى لإشراك الأكراد في العملية السياسية لتسوية الأزمة السورية، حتى تجعلهم أكثر تقبلاً لإقامة حوار مع نظام بشار الأسد، في ظل وجود الولايات المتحدة في كردستان السورية. وبالتالي، من الواضح أنه على الأكراد والقبائل العربية إلى جانب الجماعات العرقية الأخرى أن يتفاعلوا مع دمشق بشكل أوثق.
في المستقبل، من الممكن إبرام اتفاقات، بل وإقامة مناطق وقف تصعيد في الأراضي التي يسيطر عليها التحالف. وفي مثل هذه الحالة، سيتمكن تيار "الغد السوري"، الذي اتخذ دور الوسيط في المفاوضات بين روسيا والمعارضة السورية في القاهرة، من الاضطلاع بدور هام. والجدير بالذكر أن زعيم التيار أحمد الجربا، هو ممثل عن قبيلة شمر العربية، كما يرأس الجناح العسكري لتيار "الغد السوري".
في الحقيقة، ترى جميع الدول الضامنة للهدنة في سوريا، بما في ذلك تركيا، من المفيد إشراك الأكراد في مفاوضات أستانا. فمن ناحية، يعتبر الأكراد لاعبين مهمين في الحرب السورية، ومن ناحية أخرى، سيكون من الضروري التفاوض معهم بطريقة أو بأخرى. وفي هذا الشأن، فإن الأكراد يعتبرون من أهم عوامل تقسيم سوريا، إذ من المرجح أن ينفصلوا عنها. ومن جانب آخر، أسهم الأكراد بشكل كبير في القتال ضد تنظيم الدولة. فضلاً عن ذلك، أعلنت العديد من الدول الأجنبية استعدادها لدعمهم مادياً.
وعلى الرغم من أن القامشلي تعتبر القلب النابض لشمالي سوريا، علما أن الأكراد يحاولون أخذها من النظام السوري بدعم من الولايات المتحدة، إلا أن عفرين تعتبر الأنسب للأكراد في الوقت الحالي. في المقابل، لا يمكن الوصول إلى القامشلي والحسكة إلا من خلال الأراضي التي تسيطر عليها القوات الموالية للحكومة السورية.
وفقاً لمصادر رسمية، بدأت روسيا في التفاعل بشكل نشيط مع الأكراد في أواخر سنة 2016. وقبل ذلك، أي بعد حادثة سقوط الطائرة الروسية سوخوي 24، كان للعلاقات الكردية الروسية خصوصية أخرى. ففي سنة 2017، وفي سبيل حث جميع الأطراف السورية على الحوار، اقترحت موسكو مسودة دستور روسي، طرحت من خلالها مسألة الحكم الذاتي الكردي في أحد بنودها.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد وجه واحد للنشاط دبلوماسي بين الأكراد وروسيا. ففي سنة 2016، أدى الطيران التابع لقوات النظام السورية، لأول مرة منذ خمس سنوات من الحرب الأهلية، سلسلة من الضربات الجوية على المواقع الكردية في الحسكة. وفي هذا السياق، لعب الجيش الروسي دوراً مباشراً في حل الصراع بين قوات الدفاع الوطني السوري الموالية للأسد، وقوات الأمن الكردي "الأسايش".