وَلِيَ عمر بن هبيرة الفزاري العراق، في خلافة يزيد بن عبد الملك، فاستدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم: إن يزيد خليفةُ الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهداً بالسمع والطاعة، وقد ولاّني ما ترون، فيكتب إليّ بالأمر من أمره، فأنفذ ذلك الأمر، فما ترون؟
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقِيَّة.
قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟
فقال: يا ابن هبيرة، خَف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله.
يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جَعَل الله السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبَنّ دين الله وعباده لسلطان، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
رضي الله عن الحسن البصري وعن العلماء الصالحين العاملين، فما أكثر هؤلاء الذين قال الناس عنهم علماء وظنوا بهم خيراً ثم هم ينكثون وينقضون عهد الله:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [سورة آل عمران: 187].
بئس القوم رجال آتاهم الله العلم والفضل ثم هم خانوا ما عاهدوا عليه الله، لم ينكروا منكراً، ولم يعرفوا معروفاً.
بئس القوم رجال آتاهم الله العلم ثم هم إذا أمروا عوام الناس ونهوهم رأيتهم أسود الشرى تزأر، فإذا خاض الأمراء وعِلْيَةُ القوم في المنكرات عَمِيَت أبصارهم وصُمَّت آذانهم، وقُطِعَت ألسنتهم.
بئس القوم رجال حملوا في صدورهم كتاب الله، وَوَعَوا من العلوم ما شاء الله، ثم هم جعلوا من الدين مَطِيَّةً للطواغيت، وجعلوا من أنفسهم مراكب للطواغيت، فأحَلُّوا لهم ما حرم الله، وزينوا للناس باطلهم حتى جعلوه حقاً، وأبطلوا الحقوق حتى جعلوها منكرات، لقد صدق فيهم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟
قَالُوا: وَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: "وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَرَأَيْتُمُ الْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟".
والحديث وإن كان ضعيفاً، لكن الواقع الذي نعيشه يشهد بصحته.
إن فساد الأمراء من فساد العلماء، فإن صَلُحَ العلماء وصدقوا الله ورسوله صَلُحَ بصلاحهم الأمراء، وإن فسد العلماء أو قعدوا ونكسوا عن أداء أمانة الله التي جعلها في أعناقهم، فسد بفسادهم الأمراء.
بصلاح العالم يصلح الأمير؛ لأن العالم سيأمر الأمير وينهاه ويدله ويرشده إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا معاً.
لقد فسدت الأمم التي خَلَت حين فسد علماؤها وقعدوا عن الأمانة التي أوكلت إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اسمع لربك يقول: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة المائدة: 63].
وما وقع الهوان والذل في أمة محمد إلا بخذلان العلماء وقعودهم عن أداء الأمانة، فحين ركنوا إلى الدعة، وسكنوا إلى ما ظنوا فيه السلامة، وخذلوا دين الله ، وخذلوا المسلمين طمعاً ورغباً أو رهباً.
ركنوا وسكنوا وذلوا للطواغيت فذلّ بذلهم الدين، وهان بهوانهم العلم، فاستُبيحّت المحرمات، وشاعت المنكرات، وعلا الفسقة الفجرة وطَغَوا، فاستذلوا الناس وقهروهم وخاضوا في دمائهم فخنع لهم الناس وسكنوا وسلموا للهوان والذل والقهر.
ألا بئس القوم رجل آتاه الله العلم فاكتسى به وتزين ثم مد ظهره لطاغوت فأركبه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.