تراجعت مداخيل الإنتاج إلى النصف.. هكذا تحولت ثروة الفسفاط في تونس إلى سلاح مقايضة بين الحكومة والشعب

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/29 الساعة 08:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/29 الساعة 08:54 بتوقيت غرينتش

صرخةُ فزعٍ أطلقها المدير التجاري للإنتاج بشركة "فسفاط قفصة" جنوب تونس عبد الرزاق الرتاسي، محذراً من تداعيات تقلّص إنتاج الفسفاط بنسبة وصلت إلى 50 في المائة منذ سنة 2010 إلى حدود 2017، مما انعكس سلباً على عائدات تونس من العملة الصعبة التي كانت تدرّها من خلال تصديرها للأسواق العالمية.

واحتلت تونس المرتبة الخامسة عالمياً في إنتاج الفسفاط بعد أن كانت في المرتبة الثانية قبل الثورة، فيما حافظ المغرب على مرتبته الأولى عالمياً.

وقال الرتاسي في تصريح لوكالة الأنباء التونسية، إن إنتاج الفسفاط بلغ منذ بداية 2017 إلى حدود اليوم معدل 3 ملايين طن مقابل 8 ملايين طن نهاية 2010، وعزا ذلك إلى كثرة الاحتجاجات وقطع مسالك التوزيع والسكك الحديدية التي تنقل هذه المادة من المناجم إلى شركات الأسمدة الكيمائية.

تراجع خطير

اعتبر الخبير الاقتصادي والمالي معز الجودي، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن قطاع الفسفاط في تونس يعد قطاعاً حيوياً وحساساً بالنظر لنسبة مساهمته في الدورة الاقتصادية للبلاد وفي إنعاش الخزينة العامة للبلاد التونسية، حيث حقق قبل 2010 رقم معاملات وصل لنحو 4 مليارات دينار لشركة فسفاط قفصة، منها مليار دينار دخلت مباشرة لخزينة الدولة التونسية.

لكن بعد الثورة تراجع رقم المعاملات إلى النصف بمعدل 1.5 و2 مليار دولار بهامش ربح لم يتجاوز 300 مليون دولار في نسبة المساهمة بميزانية الدولة، وهو ما تسبب مباشرة في عجز ميزانية الدولة الذي وصل إلى 7 في المائة عام 2017، ونسبة دين تُقدّر بـ68 في المائة، وهي أرقام تعد خطيرة جداً، حسب قوله.

وعزا الجودي تعطّل مسالك الإنتاج والتوزيع في مدن ما يعرف بـ"الحوض المنجمي" كالرديف وأم العرايس والمظيلة، وتواصل الاحتجاجات الاجتماعية العشوائية وقطع السكك الحديدية- إلى ضعف هيبة الدولة وعجزها عن فرض القانون، مشدداً على وجود إطار قانوني يسمح بتدخل الجيش التونسي.

وفي شهر مايو/أيار الماضي، أمر الرئيس التونسي قوات الجيش بحماية المنشآت الحيوية ومواقع إنتاج الفوسفات وحقول الغاز والبترول في الجنوب بعد أن بلغت الاحتجاجات الاجتماعية في محافظتي قبلي وتطاوين ذروتها، حيث عمد المحتجون إلى إغلاق الصمامات الرئيسية لتدفق الغاز والبترول؛ احتجاجاً على عدم استجابة الدولة لمطالبهم بالتنمية والتشغيل، وانتهى الأمر إلى تدخل الجيش وقيام الحكومة بمفاوضات اجتماعية مع الشباب المعتصم.

تواصل الاحتجاجات

رغم تدخُّل الجيش، فإن الاحتجاجات لم تتوفق، فقد عمد منذ أيام عاطلون عن العمل (يصفون أنفسهم بالمعطلين؛ لأنهم يطالبون الدولة بتوفير العمل لهم)، من مدينة منزل بوزيان من محافظة سيدي بوزيد (مهد الثورة)، إلى قطع طريق السكك الحديدية كشكل من أشكال الاحتجاج على ظروفهم الاجتماعية التي يصفونها بالسيئة، مما تسبب في وقف سير قطار نقل الفسفاط من مراكز الإنتاج إلى شركات التحويل الكيميائي في صفاقس وقابس.
وتواصل "هاف بوست" مع المكلف الإعلام بشركة فسفاط قفصة، علي هوشاتي؛ للحديث عن واقع هذه الشركة، غير أنه امتنع عن الإجابة؛ بدعوى أنه لا يملك التفويض ولا المعلومة.

احتجاجات مفتعلة؟

وتعليقاً على تراجع إنتاج الفسفاط ودور الاحتجاجات الاجتماعية والاعتصامات في ذلك، اعتبر الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل في تونس -أكبر منظمة نقابية عمالية- في حديثه لـ"عربي بوست"، أن نسق إنتاج الفسفاط لم يتراجع كما يروج كثيرون منذ الثورة، وأن عمال الشركة واصلوا سير عملهم، لكن قطع الطريق من قِبل محتجين -وُصف بعضهم بـ"المأجورين"- على مداخل ومخارج الشركة وتعطيل عملية نقل الفسفاط من المناجم إلى شركات التحويل عبر القطارات- هو الذي أدى إلى تراجع المداخيل.

المسؤول النقابي أرجع ذلك إلى وجود "لوبيات" تستفيد من تجارة شحن هذه المادة عبر شاحنات خاصة بدل نقلها الطبيعي بالقطارات، مشيراً إلى "تورط أحزاب بعينها وموظفين بالدولة باعتبار أن تسعيرة نقل هذه المادة بالشاحنات تتضاعف بـ4 مرات مقابل نقلها بالقطارات، مما يشكل مورد استرزاق غير قانوني لبعض الأطراف النافذة في الدولة"، وفق تعبيره.

ولم ينفِ الطاهري، في المقابل، وجود احتجاجات ذات بُعد مطلبي اجتماعي، لكن غالبيتها -كما يقول- احتجاجات مفتعلة تعتمد قطع الطرق وتخريب السكك الحديدية؛ لتحطيم هذا القطاع وفسح المجال للمحتكرين.

وشدد الطاهري على أن اتحاد الشغل طالب الحكومة بتطبيق القانون بكل حزم على قطاع الطرق والمعطلين لإنتاج الفسفاط بشكل متعمد، وفتح تحقيق في الغرض، مشيراً إلى أن قرار السبسي بنشر قوات عسكرية في مناطق الإنتاج ليس إلا "مجرد ذَرّ رماد في العيون، لم يؤدِ إلى أي نتيجة في ظل ضعف هيبة الدولة وعجزها عن تطبيق القانون".

من نعمة إلى نقمة

وتعتبر محافظة قفصة، التي تزخر جبالها بهذه الثروة المنجمية، من أفقر المحافظات وأكثرها تهميشاً، وسط غياب كامل لمشاريع التنمية، فضلاً عن ارتفاع نسبة البطالة، حيث تحتل المرتبة الثالثة وطنياً في عدد المعطلين عن العمل بنسبة 24.5 في المائة.

ومن المضحكات المبكيات -كما يقول الناطق باسم "منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في تونس، رمضان بن عمر، لـ"عربي بوست"- أن إنتاج الفسفاط في هذه المحافظة تحوَّل من نعمة إلى نقمة لدى سكانها؛ نظراً إلى الانعكاسات البيئية والصحية المترتبة عن استخراج هذه المادة.

هذا فضلاً عن انعدام الماء الصالح للشرب الذي يصل للشركة لاستغلاله في الإنتاج ولا يصل للسكان الذين يشكون العطش في مدينة مثل "الرديف"، ويعمدون إلى الشركة ذاتها لتزويدهم بالماء، في ظل غياب تام لمعالم التنمية وتطور البنية التحتية الذي وقف تطويرها منذ الستينيات على أثر الإصلاح الهيكلي الشامل الذي قامت بها شركة فسطاط قفصة، حيث طردت مئات العمال من سكان هذه المحافظة وعوّضتهم بالآلات.

بن رمضان، أكد أن عجز الدولة عن إيجاد حلول جذرية وفشل المفاوضات مع الأهالي زادا من حجم الغضب والاحتقان الشعبي بهذه المحافظة، وسط "تعاظم المطالب الاجتماعية واكتفاء الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بالحلول المؤقتة على شكل مسكنات؛ لتخفيض حدة الاحتقان كلما اندلعت الاحتجاجات".

ومنذ 2008، شهدت محافظة قفصة احتجاجات اجتماعية حادة قام بها شباب المنطقة؛ للمطالبة بالحق في التشغيل بشركة الفسفاط، أطلق عليها حينها "أحداث الحوض المنجمي"، وجابهها الرئيس الأسبق بن علي بالقمع، ليعتبرها كثيرون الشرارة الأولى التي هيأت لاندلاع الثورة في تونس.

تحميل المزيد