في الماضي، كانت ذات العشرة أعوام تعتقد أنه من عدم الإنصاف أن تخوض الحياة معاركها بكل حِمية مع هؤلاء العُزل الذين ما تبقى لهم من أجسادهم الواهنة شيء يحتمون به أمام شراستها. وإنه من المروءة أن تكون أطراف الحرب على نفس القدر من القوة والصلابة.
كانت لا ترى عذراً لقصور الأبجدية في التعبير عن هؤلاء الأبطال وتخاذل الكتاب والشعراء والفلاسفة في أن يفردوا صفحات ودواوين ومقالات من أجل الحديث عن تلك المرارة والغُصة التي يعانيها هؤلاء، إلا أنه في نفس الوقت كانت تظن أن حتى تلك القصائد والأشعار لن تستطيع أن تصف وجعاً كهذا، تهرب فيه الروح المسحوقة إلى جسد استوطنه المرض لم يعد فيه عضو إلا وقد مات به نسيج، ويلجأ فيه جسد ضعيف إلى روحٍ منهكة، يطلب الدعم من أرض ضحلة ممزقة.
كبرت ذات العشرة أعوام وتضاعف عمرها ولم تدرِ أنها ستخوض مستقبلاً معركتها الخاصة، فوجدتها كما نددت من الجور والمغالاة ورغم هشاشتها خاضت وانتصرت بأنفاس متقطعة أحياناً وخضعت فى الأخرى، لم ترغب أبداً أن تبتعد المعركة عن عقر دارها فحتى الخسارة على أرضها، ستكون مكسباً كبيراً لها، إلا أنه في الجولات الأخيرة لم تكن الصدارة من نصيبها فكانت المعركة فى مكان آخر ما لبثت أن هربت من شبحه مؤخراً.
حطّت بها الرياح هنا، حيث الهدوء الصامت مهيمن على المكان، ثباتٌ فى الزمن حد لا معنى للثواني والدقائق أو الساعات، لا أحد هنا إلا وغارق في سأم دامس؛ وجالس يبحث عن قشته لينجو.
فى هذه اللحظة لن تستطيع أن تزايد على ألم أحدهم فالجميع هنا لنفس السبب والجميع هنا متساوون فى الألم وإن تدرجوا فى المعاناة.
هؤلاء الأبطال رغم أثرهم الكبير بداخلي، إلا أنني لم أفعل شيئاً مدهشاً لهم، ولكنني أقسم أني حاولت وسط كل هذه العزلة والضياع أن أجعل الحياة ممكنة.
ومن جهتي لم ينقذني أحد حتى الذين ظننتهم ملجئي ومنقذي، بل أنقذتني جمادات ألفتها وأشياء أحببتها ربما كرة من خيط وإبرة أو قلم وفرشاة، أنقذتني اللوحات والألوان ولم ينقذني الناس.
ولا أُخفيك أن الجلوس فى الغرفة وحيداً يجعلك تسترجع ذكريات طالما ظننتها طويت فى خانة النسيان، في الحقيقة لم تخِفني الأشياء الآيلة للزوال يوماً ما، بل مما ظننته سيبقى معي ثم يخيب ظني به في آخر المطاف.
فالطعنة هنا يا صديقي تقتل مرتين، وندما حانت لحظة المغادرة فعلياً، جلست أتنهد وكأني أودع الغرفة التي احتضنتني لأيام، ادقق فى الجدران وأتفحص قطع الأثاث علّها تتحرك من مكانها فأعطيها عناقاً أخير، لكنها مثلي، مُخيبة للآمال، لا تتجاوب.
وواجب الوفاء يحتم علينا أن نودع هؤلاء الذين شغلنا مكاناً من أرواحهم، أن نمر عليهم، ألا نتركهم كهذا بدون ابتسامة و"إلى اللقاء" كاذبتين، فقد زارتنا أشياء سعيدة هنا فى الوقت الذي ظننا فيها أن لن يغادرنا الحزن أبداً، وبالنظر في عيون هؤلاء وجدت أننا نحمل نفس الغاية، فبالرغم من امتلاكنا أعماراً محدودة فإن قلوبنا كانت تعشق كل جميل، وأننا لم نتوقف بل واجهنا ولم نستسلم قط، وإن لم نعرف قوانين اللعبة جيداً.
كان عزاؤنا الوحيد أنه على الأقل عندما نرحل سنترك خلفنا قصة واحدة ملحمية تحكي عنا وسنكون قد أحببنا بالفعل على الأقل مرة واحدة موقفه وبصدق، ونكون قد حلمنا على الأقل حلماً واحداً جميلاً وإن لم نلمسه.
سنرحل ونعلم أنه على الأقل ستتردد على أماكننا قطة واحدة جائعة، وستفتقد جلساتنا ظل شجرة واحدة وسيحفظ خطواتنا على الأقل شارع واحد طويل، وتحن إلى مبيتنا على الأقل مدينة واحدة، وسيظل دفء أجسادنا ساكن على الأقل بداخل معطف واحد بغرفتنا، وسيتذكرنا على الأقل صديق واحد وفي وإن كان في حديث عابر مع نفسه، وعلى الأقل سنكون قد نجحنا مرة أخيرة وإلى الأبد في إخفاء قصتنا الحزينة.
بعد ارتداء زي العمليات، أنت تقف الآن على بُعد خطوات من تلك الغرفة، تفتح أحضانها لاستقبالك -هي كريمة كالعادة- الجو العام في المكان لا يختلف كثيراً عنها.
تنام على الفراش حتى يأتي الطبيب المسؤول عن التخدير، بضع لحظات هامة، تمثل آخر الفرص النزيهة التي تتركها لك الحياة للتفكر فيما مضى من عمرك، بعدها سيصبح كل ذلك سراباً.
ستجد نفسك متعباً مما يصول ويجول بداخلك من أفكار! عجباً لك أفنيت عمراً طويل لكي لا تكون أنت! كم مرة كنت رهن الحديث العالق وزرعت نفسك فى غير أرضك فذبلت! كم مرة خاطبتك نفسُك لا جدوى من العبث فى الجروح الغائرة لكنك ما استجبت!
ها قد جاء طبيب التخدير لتبدأ رحلة جديدة تصارع فيها غريزتنا العدم من أجل البقاء، رحلة غريبة لا بد أن تستلم فى بدايتها؛ لكي تبدأها إقترب، لا تغمض عينك، عليك أن تستمتع بكل لحظه تمر فى هذا الوقت حتى يشرع الظلام في الانتشار؛ ليعم المكان ستجد جفنيك يلتصقان وحدهما بسلام، تفقد السيطرة على كل الأفكار التي صارعتك حتى الوصول؛ ليظلم كل شيء حولك حتى يشمل خيالك، لا مفر الآن هيّا عُد واحد، اثنان، ثلاثة.. انتهى!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.