الحركة الطلابية التونسية ومخاض العودة إلى أمجاد الماضي

كثيراً ما استوقفتني صور ينشرها بين حين وآخر مناضلون في الساحة الطلابية التونسية أظهرت إحداها طالباً وهو يخطب في جمع من زملائه معتمراً كوفيّة فلسطينيّة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/27 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/27 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش

كثيراً ما استوقفتني صور ينشرها بين حين وآخر مناضلون في الساحة الطلابية التونسية أظهرت إحداها طالباً وهو يخطب في جمع من زملائه معتمراً كوفيّة فلسطينيّة.

الطالب كان قريباً من صور لشهداء ولراية فلسطينية، مجدداً الالتزام بالقضية الأم والعهد لدماء كل الذين قضوا في سبيلها وفي سبيل أمثالها، دون أن ينسى التنديد بالنظم الرجعيّة العميلة وبالنهج الاستسلامي التفريطي وبوكلاء الاستعمار في مختلف الصيغ "الحربائية" التي يظهرون بها ليستمروا في خداع شعوبهم.

عادت بي الذاكرة إلى سنوات الجامعة واستحضرت تلك الروح الثورية التي كانت تسكن أغلب الطلبة، كلّ بطريقته، سواء أكان يسارياً أم قومياً أم إسلامياً، وداهمت مخيلتي مشاهد مواجهات مع "الأمن الجامعي" ذابت فيها الصراعات ولو إلى حين، من أجل وحدة الصف وذوداً عن الحرم الجامعي و"المكاسب" النضالية.

تذكرت صرخات قادة النضال الطلابي: "جامعة منوبة لن تركع لغير الله/ جامعة شعبية تعليم ديمقراطي ثقافة وطنية/ شعب عربي واحد جيش عربي واحد/ يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب".

كل تلك الشعارات والنضالات والمواجهات مثلت بطريقة ما ساحة اتسعت لألوان من البطولة أظهر فيها طلاب مستوى عجيباً من رباطة الجأش، تماماً كما اتسعت تلك الساحة لمواقف طفولية ومزايدات لم تعكس النضج المطلوب في مواجهة الواقع داخل أسوار الجامعة وخارجها.

ذات يوم اعتلى أحد الزملاء كرسي الخطابة ولم يكن وجهاً مألوفاً عندي وجعل يخطب بنبرة تخنقها الغصّة حالفاً بأغلظ الأيمان أنه لم ينتمِ يوماً للحزب الحاكم ولم ينشط في صفوف منظمة طلبته، تلك المنظمة التي كانت ويا لَلمفارقة سرية النشاط في الجامعة، فقد كان الالتحاق بــ"منظمة طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي" أشبه بالالتحاق بالموساد أو الشاباك، ما يجعل المنتمي لها عرضةً لكل المضايقات إن لم يكُن العنف في حال ثبت عليه أنه وشى بالمناضلين وتسبّب في اعتقال أو تعذيب بعضهم.

كانت أسوار الجامعات تحوي عالماً مختلفاً عما يدور خارجها، فكلما غادرت تلك الأسوار إلى "باجة" مدينتي الشمالية الصغيرة أو عدتَ إليها كنت ألحظ ذلك الفارق الشاسع بين دنيا الناس التي يبدو فيه الجميع مستغرقاً في تفاصيل وهموم الحياة اليومية، وأخرى في الجامعة المليئة بالشعارات والنصوص الفكرية والمواقف السياسية التي تحسب وأنت تسمعها أن العالم يوشك على التبدّل جذرياً والذهاب طوعاً أو كرهاً نحو حتمية تاريخية ماركسية أو قومية أو إسلامية.

كانت فترة الثمانينيات، حقبة الحركات الطلابية بامتياز، ووسط عدد من الحركات الطلابية العربية الناشطة برزت الساحة الطلابية التونسية بزخم نضالي مشهود جعلها محل احترام كبير بين مثيلاتها، وكان لتلك الحركة الطلابية التونسية تاريخ عريق متقلب يعود إلى بدايات القرن العشرين حيث ظهر إلى الوجود ما عرف وقتها بـ"صوت الطالب الزيتوني"، وهي الإطار الذي اضمحل بعد الاستقلال لتظهر منظمة "الاتحاد العام لطلبة تونس"، وتعكس من موقعها هيمنة الحزب الوحيد الحاكم، حزب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.. ومع بروز التيار الإسلامي تطورت الأمور في بداية الثمانينيات نحو بروز منظمة "الاتحاد العام التونسي للطلبة" الذي استفاد من حالة الجمود التي دخل فيها "الاتحاد العام لطلبة تونس" بفعل جولات من صراع يساري دستوري ثم يساري – يساري من أجل السيطرة عليه.

لا يملك كل مَن مر بالساحة الطلابية التونسية في هذه المراحل التي سبقت بداية تسعينيات القرن أن ينكر الغنى والثراء اللذين كانت عليهما الساحة الطلابية التونسية، فبالاجتماعات العامّة وبحلقات النقاش وبالصراعات السياسية والانتخابية للاستحواذ على أكبر عدد من مقاعد ما كان يعرف بالمجالس العلمية في الكليات، بكل ذلك وبمجلات حائطية وأخرى تنظيمية سرية، منحت تلك الساحة الطلبة فرصة للتحوّل من مواقع الحياد والانتماء وحتى من موقع الوشاية، إلى أكثر من مجرد طلبة يدرسون من أجل التخرج والمسارعة نحو الوظيفة.

في الجامعة التونسية آنذاك كان الجميع يعرف بنحو وقدر ما الأدبيات الماركسية فتجده عرف شيئاً من مقولات وكتابات كارل ماركس وفريديريك إنجلز وفلاديمير إيليش لينين وروزا لكسومبورغ، وتجده قد ألمّ ولو بمقدار بنظرية الثورة العربية كما سطرها المفكر القومي عصمت سيف الدولة ومن قبلها ما بقي من تراث الناصرية، وما زامنها أو لحق بها من أدبيات البعثين العراقي والسوري، ولا بد لكل طالب أن تكون قرعت أذنيه مقولات وكتابات لسيد قطب ومحمد باقر الصدر ومرتضى مطهري وعماد الدين خليل.

لعل كل ذلك جعل الناس الذين يعيشون في عالم ما وراء أسوار الجامعة ينظرون وقتها بعين الإكبار لهؤلاء الشباب الذين لا يكفون عن مشاكسة النظام بمظاهراتهم ويتبجحون بإلمامهم بآخر الصيحات الفكرية والسياسية ويظهرون قدرة على تحليل الواقع وكشف ما يقف وراءه من أسرار ومفارقات ومظالم وخيانات واصطفافات وصفقات.

كان لشعب ما وراء أسوار الجامعة أن يحتفي ولو في صمت بأولئك الذين لا يكفون عن ترديد الإشادة بالشعب والتبشير بقومته الآتية لا محالة في وجه النظام "الإقليمي الرجعي العميل".

عرفت الحركة الطلابية التونسية أحوال مد وجزر، انهمكت في كثير من مفاصلها ومراحلها في صراعات داخلية شاب بعضها عنف عكس شمولية أكثر التيارات الناشطة ورغبتها الجامحة في الهيمنة على القرار الطلابي وتوظيفه في اتجاه قراءتها للصراعات القائمة في البلاد، وفي كل الأوقات كانت التيارات السياسية الطلابية تتبادل التهم بالعمالة للنظام ومجاراة سياساته والتبشير ببديل مأزوم لا يملك النهوض بالواقع نحو الفردوس المنشود.

كما شهدت تلك الساحة الطلابية مواجهات كر وفر مع الأدوات القمعية البوليسية لنظامي بورقيبة وخلفه الجنرال زين العابدين بن علي، ذلك الذي انقلب على رائد الاستقلال قادماً من خلفيته الأمنية المخابراتية الواسعة والتي لم تغادره حتى غادر هو الحكم مرغماً بفعل ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول – 14 يناير/كانون الثاني 2011.. بن علي منح الساحة الطلابية وعامة البلاد متنفساً لم يدُم أكثر من سنتين عاد بعدها من وعده بحياة سياسية ديمقراطية تليق بالمستوى الذي بلغه التونسيون (نقل شبه حرفي عن البيان الأول لانقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987) لينتكس نحو تزوير واسع للانتخابات باتجاه نسب تسعينية لنتائجها، ومصادرة تدريجية فجة للحريات الإعلامية والسياسية الهشة التي وُئدت في مهدها.

ما كان لابن علي الساعي حينها لتوسيد الحكم لنفسه سنوات طويلة أن يحتمل ساحة طلابية ناشطة كما فعل سلفه بورقيبة وإن لم يألُ جهداُ هو الآخر في قمعها؛ لذلك سارع بعد أن منح تأشيرة العمل القانوني لكل من "الاتحاد العام التونسي للطلبة" و"الاتحاد العام لطلبة تونس" مراهناً على تذكية الصراع بينهما وهو ما حدث فعلاً، إلى سلب تلك التأشيرة من "التونسي للطلبة" الإسلامي.. وتقليم أظافر الآخر اليساري..لتدخل الساحة الطلابية منذ ذاك في مرحلة من الضغط الأمني القاسي انتهى بها إلى الضعف والتشتت والتراجع شيئاً فشيئاً بعيداً عن تاريخها المجيد.

رغم ذلك، لم تمت جذوة النضال الطلابي وبقيت بعض الأطراف ترفع أصوات الاحتجاج في ساحات المؤسسات الجامعية، في وقت ظهرت فيه منظمة الحزب الحاكم للعلن بعد سنوات طويلة من السرية أتقنت فيها فنون الدسيسة والوشاية بأنواعها، انقلبت الصورة في مكر عجيب للأقدار فتوارى المناضلون الأشاوس عن الأنظار خشية التنكيل الأمني الذي لا يستثني التحقيق والسجن والانقطاع القسري عن الدراسة والمنع الاستباقي لأي وظيفة عمومية، وتظهر على الساحة وجوه قادة طلبة الحزب الحاكم ملوحين بسياسة العصا والجزرة في التعامل مع طلاب تمكنت منهم هزيمة نفسية، دفعتهم للتفكير في نيل الوظيفة قبل فوات الأوان بفعل أزمة البطالة التي واصلت تقدمها بين الفئات الاجتماعية غير عابئة بوعود النظام والثوار القائمين في وجهه، على حد سواء.

حري بالذكر في هذا المقام أن نظام بن علي اقتحم أسوار الجامعة آنذاك ليس فقط بفضل قوة أجهزته القمعية، وإنما كذلك بعون من داخل أسوار الجامعات، فقد أنهكت المزايدات السياسية التي اشتدت مع حرب الخليج الأولى بداية التسعينيات القوى الطالبية وظهرت من بين ثنايا الكواليس مؤشرات تقارب بين النظام وقوى اليسار شبيه بذلك الذي تم سابقاً بينه وبين الإسلاميين في بدايات ظهورهم، وعرفت البلاد ما عرف حينها بالهجرة اليسارية نحو "التجمع الدستوري الديمقراطي" وذلك في سياق قراءة يسارية اعتبرت المد الإسلامي أولوية وخطراً دونه ودونها بقية المخاطر والأولويات، الأمر الذي يستدعي ملء الجانب الأيديولوجي من معركة وشيكة حامية الوطيس بين نظام بن علي والإسلاميين اتخذت طابعاً استئصالياً رسخ مكانة ذلك النظام بوصفه نظاماً بوليسياً قمعياً فاخر العالم بصولاته وجولاته في ترويض "البعبع الإسلامي" بل والقضاء عليه.

ولم يكن غريباً في هذا السياق إذاً أن نجد الأمين العام التاريخي للاتحاد العام لطلبة تونس سمير العبيدي عضدًا وذراعاً يمنى لابن علي وقد تقلب في مناصب رسمية وصل ضمنها أواخر أيام بن علي إلى وزير ومستشار مقرب ذي حظوة.

في المقابل أدار الطلبة الإسلاميون معركتهم المصيرية يومها مع نظام بن علي بطريقة اختزلت كثيراً من أمراض الساحة الطلابية برمّتها وكانوا بالفعل الثور الأبيض الذي بعده أكلت بقية الثيران.

بدا لافتاً أيامها أن الساحة الطلابية التي كانت ريادية ومتقدمة على بقية الساحة الوطنية حتى إنها كانت تصف المؤسسات الجامعية بالمناطق المحررة، انقادت إلى القيادة السياسية الموجودة خارج أسوار الجامعة، تلك التي حسمت أمرها بخوض مواجهة شاملة مع بن علي سواء لرغبتها في الدفع بالبلاد نحو مرحلة سياسية جديدة أو نظراً لحملة النظام التي لم تترك أمامهم خياراً آخر غير المواجهة.

عند هذا المستوى ظهرت أمور غريبة من قبيل الانقطاع عن الدروس؛ لأن الدولة المنشودة دولة الحريات وشيكة القيام، والتشخيص المحدد لزمان بل ولكيفية قيام تلك الدولة المرتقبة، غير أن رياح الأحداث هبت هوجاء في اتجاه آخر فلقد نكل بهم بن علي وشرد بهم من خلفهم؛ ليجدوا أنفسهم ولوحدهم يساقون إلى محرقة التسعينيات التي شكلت المحنة الأقسى والأوسع بحق الإسلاميين الذين ابتلعت السجون أكثرهم فيما ألقت مدن اللجوء في الغرب معاطفها واستقبلتهم وحمتهم مما كان يتربّص بهم.

في الضفة اليسارية من الحركة الطلابية خلف غياب الزملاء الإسلاميين الألدّاء فراغاً رهيباً مثقلاً بالحرج الأخلاقي لتيارات يسارية لزمت موقف المتفرج في تلك المحرقة وارتضت لنفسها التصرف تقريباً، كما لو أن شيئاً لم يحدث، وكان الناتج الطبيعي لذلك هو دخول التعبيرات اليسارية في صراعات فيما بينها أكثر شراسة أحياناً من تلك التي عرفها الاتحاد العام لطلبة تونس نهاية سبعينيات القرن الماضي، وعوض أن تستثمر قوى اليسار فرصة الانفراد بالساحة الطلابية لتجميع قواها وتطوير تجربتها، مارست على العكس من ذلك كل ألوان الانقسام والصراع على المناصب والمغانم الضيقة بل والشخصية في أحيان كثيرة.

استمر هذا الوضع يراوح سنوات كانت تونس تشهد فيها تغييرات بطيئة على مستوى الدولة والمجتمع، ذلك أن بن علي الذي عدّل الدستور مراراً على مقاسه كان يحاول إبطاء تأثير الزمن على قوة قبضته الأمنية التي استوفت ما في جعبتها من طرق التنكيل الأمني والتضليل الإعلامي والدبلوماسي.

وفي نفس الوقت بدأت الفئات الاجتماعية تفيق من سكرة شعارات النظام بشأن "بلد الأمن والأمان" و"المعجزة الاقتصادية التونسية" و"التغيير المبارك"؛ لتجد نفسها وجهاً لوجه مع واقع معيشي صعب وسياسات من التهميش وتكريس التفاوت الجهوي فضلاً عن بطالة ضاربة بأطنابها بين ثنايا المجتمع.

وفيما كان الوضع التونسي يعبر عن أزمته بين حين وآخر في انتفاضات تفاوتت حجماً وتأثيراً من الحوض المنجمي إلى "بنقردان" إلى "جرجيس"، اكتفت الساحة الطلابية بنضالات رمزية لم ترقَ بفعل عوامل ذاتية وموضوعية لمستوى دقة المرحلة التي تمر بها البلاد، بل إنها لم تنتبه أصلاً لجنين الثورة الذي كان يعتمل داخل رحم الأزمة المتصاعدة ببطء بتونس.

وفعلاً قامت ثورة 17 ديسمبر – يناير 2011 ووصفت بثورة الشباب، لكن المفارقة كانت أن الشباب الذي ساهم في إذكائها ودفع ثمناً دامياً لإنجاحها لم يكن الشباب الطالبي الملتزم أو المنتمي سياسياً، وإنما كان الشباب المهمش المعطل عن العمل، ذلك الذي لم تحركه كتابات لينين ولا سيف الدولة ولا المودودي، بل حركه اليأس من وعود نظام زين العابدين بن علي ودفعه للخروج بوجهه قمعه الذي فات الحدود وفساد عائلته التي أزكمت الأنوف أخبار فساد أفراد منها.

وبقدر ما مثلت تلك الثورة مكسباً لا يقدر بثمن للحركة الطلابية بدت في الواقع أقرب للهدية السهلة والمعجزة التي جادت بها الأقدار على كل معارضي النظام من مختلف مواقعه السياسية والنقابية.

وكما الأحزاب السياسية شهد النسيج الجمعياتي والنقابي طفرة في البلاد مع انفتاح أبواب الشرعية القانونية في وجهها، فعاد الجميع إلى النشاط وحاول الطلبة لعب دور متقدم في اعتصامات القصبة 1 و2 و3، تلك التي رسمت بنتائجها المتباينة شيئاً من ملامح تلك المرحلة وما لحقها من مراحل سياسية متسارعة في تونس الثورة، تونس التي باتت حديث واهتمام القاصي والداني، لكن الوقائع أظهرت بروز تعبيرات وجديدة وخطاباً ووسائل غير مسبوقة لا عهد للحركة الطلابية "الكلاسيكية" بها.

وإن سنوات بعد ذلك المنعرج لتجعلنا نقطع جازمين بأن الثورة شكلت في الحقيقة حرجاً من نوع غير مسبوق لم يحسب له الجميع حسباناً، الأمر الذي جعلهم كلهم يلهثون وراء الأحداث بدل أن يكونوا صانعين لها وطليعة لحركتها كما كانوا من قبل.

عادت الحركة الطلابية للنشاط العلني هذه المرة دون ضغط أمني لتجد نفسها وجهاً لوجه مع حقيقة قدراتها على إنتاج قيادات فاعلة وعقول قادرة على تقديم أفضل التحليلات والحلول لمشاكل البلاد، قيادات قادرة على إقناع وحشد الجماهير في اتجاه أهداف الثورة والحفاظ على إرث شهدائها.

لكن مسار الأحداث اتخذ اتجاهات أخرى، فالأحزاب السياسية أخذت زمام المبادرة شيئاً فشيئاً؛ لتصوغ الواقع الجديد وفق موازين قوى تغيرت كثيراً لكن ليس جذرياً، فنشأت تحالفات وأخرى مضادة لها وأعيد إنتاج محاور الاستقطاب على نحو شديد التقلب تراجعت بل تعرّت فيه الشعارات وكشفت عن مصالح سياسية أكثر مما أحالت على خنادق مبدئية غير قابلة للمساومة.

ولعل ما أعقب نتائج انتخابات 2014 التي ظفر بأكثر ثمارها حزب نداء تونس الذي اتهم بكونه إعادة تأهيل للنظام القديم وللدولة العميقة، فضح الكثير على هذا المستوى، ذلك أن أحزاب اليسار لم تمانع في تنحية "ثوريتها" جانباً لتلتحق بجبهة إنقاذ تونس جنباً إلى جنب مع من اتهمتهم طويلاً بكونهم أرباب الثورة المضادة.. بل إن الجبهة الشعبية اشترطت على نداء تونس وزعيمه الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي أن يستبعد حركة النهضة الإسلامية لتنضم معه إلى تحالف يشكل حكومة ما بعد انتخابات 2014.

في المقابل، لم يجد النهضويون بُداً في سياق سعيهم للتأقلم مع واقع ما بعد الثورة وإخفاق تجربة الترويكا التي قادوا بها مرحلة ما بعد انتخابات 2011، لم يجدوا إلا قليلاً من الحرج في الالتحاق بتحالف مع الندائيين الذي طالما رفعوا في وجوههم شعارهم الشهير: "أوفياء أوفياء لا تجمع لا نداء"، حجتهم في توجههم ذاك أن تراجعات موجة "الربيع العربي" وما تتطلبه من واقعية ومرونة فائقة في التأقلم مع إكراهات المرحلة أملى عليهم ذلك.

في خضم هذا الواقع السياسي لاحت الهوة جليّة بين "ثوريّة" القيادات الطلابية بكوفياتهم الفلسطينية والتزامهم المتكرر بالوفاء للقضية الأم ولمطالب الجماهير المسحوقة، ومسارعة أحزابهم خارج أسوار الجامعة إلى بورصة الصراعات والتحالفات الحزبية يغترفون من فرصها ولا يتورعون عن المتناقض منها في سبيل كسب صراعاتهم المتبادلة.

مشهد أفقد الحركة الطلابية التونسية كثيراً من زخمها ومن أخلاقية نضالاتها وجعلها تنساق شيئاً فشيئاً نحو التهميش، فلم تعد إلى بريقها الأول بل وجدت نفسها قبالة استحقاقات مصيرية تحتاج ضمنها لإعادة تعريف نفسها ومراجعة آليات عملها ومفردات خطابها، معنية في كل ذلك بشعار قديم جديد هو الاستقلالية، لكن ليس فقط بمعنى الحفاظ على مسافة الأمان بين النقابي والسياسي في أدبياتها ونشاطها، أو فقط بمعنى مواجهة محاولات الحكم القديم والجديد تدجينها واستتباعها، وإنما كذلك حيال الأحزاب السياسية التي أوجدتها وساهمت بقوة في تركيبتها ومراحل تاريخها.

تبدو الحركة الطلابية التونسية مدعوة اليوم وأكثر من أي وقت مضى لإعادة إنتاج نفسها بعيداً عن الوصاية والأجندات السياسية الحزبية، ومطالبة بتطوير قدراتها على تكوين وإفراز قيادات طلائعية متقدمة على الساحة السياسية متحررة من قيودها ورهاناتها الآنية، لتعود بالفعل قوة اقتراح وضغط يحسب لها حساب في أي منعرج قد تقدم عليه البلاد، ولعل الواقع الاقتصادي الصعب والسياسي الهش والأمني الحذر الذي تعيشه تونس يمثل منصة انطلاق مناسبة للحركة الطلابية التونسية؛ كي تستعيد أمجادها التي لا تكفي كوفية فلسطينية على الكتف ولا حنجرة تصدح بالشعارات ولا منازلات انتخابية خاضعة للاستقطابات التقليدية للإيفاء باستحقاقاتها وضمان عودتها وبقوة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد