صلاح والعَلم اليمني

في صبيحة يوم ممطر، كانت الشمس غائبة، السماء ملبدة بالغيوم، الناس في منازلهم، المدينة كانت هادئة على غير عادتها، لا تكاد تسمع إلا زخات المطر المتساقطة من حين لآخر على الأرض، الناس في الشوارع يمشون على عجل لا يلوون على شيء هروباً من المطر المتقطع الذي تتخلله الرياح من حين لآخر في المدينة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/27 الساعة 08:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/27 الساعة 08:35 بتوقيت غرينتش

في صبيحة يوم ممطر، كانت الشمس غائبة، السماء ملبدة بالغيوم، الناس في منازلهم، المدينة كانت هادئة على غير عادتها، لا تكاد تسمع إلا زخات المطر المتساقطة من حين لآخر على الأرض، الناس في الشوارع يمشون على عجل لا يلوون على شيء هروباً من المطر المتقطع الذي تتخلله الرياح من حين لآخر في المدينة.

إنها مدينة حيدر آباد بدولة الهند التي تشتهر بمعالمها التاريخية الجميلة ويزينها تشارمينار بمناراته العالية التي ترسم لوحة فنية تجذب كل مَن زارها، وتضفي حدائقها جمالاً آخر للمدينة ومنها راموجي فيلم سيتي التي ما زارها رجل إلا وفكر في أن يزورها مرة أخرى.

كان صلاح طالباً مغترباً حينذاك بهذه المدينة، غادر موطنه منذ زمن؛ ليكمل دراساته العليا في الخارج، خرج في ذلك اليوم الشتوي البارد متوجهاً إلى قاعته الدراسية، وفي طريقه للجامعة رأى لوحةً صغيرة معلقة بإحدى بوابات الجامعة. كعادته لحب الاطلاع، اقترب صلاح من تلك اللوحة ليقرأها، لم يكن ما كتب فيها غريباً عليه فقد كان ما فيها هو إعلان عن حفل ثقافي لاستعراض ثقافات الجنسيات المختلفة من الطلاب الدارسين بجامعته.

فرح صلاح بذلك الإعلان الذي قرأه فرحاً شديداً كونه في هذا اليوم سيرى عَلم بلاده يرفرف على مسرح الجامعة التي يدرس بها في أرض المهجر وسيشارك أبناء وطنه ويعرضون ثقافاتهم في ذلك الاحتفال كعادتهم من كل عام.

عاد صلاح إلى منزله يرتب أدواته ويجهز لنفسه الملابس الجميلة التي يريد أن يظهر بها في ذلك الحفل ممثلاً لثقافة بلاده.

كانت الساعات تمر ببطء شديد وهو في انتظار المساء؛ حيث تبدأ مراسم ذلك الحفل الذي طالما ظل صلاح ينتظره من عام إلى عام ليستمتع برؤية عَلم بلاده يرفرف بين عشرات الأعلام.
لقد كان ذلك يجلب له السرور ويشعره بالفخر والاعتزاز بموطنه ويخفف عنه ألم الغربة ولوعة الفراق لأهله وأصدقائه.

حضر المساء ليخبر صلاح بأن ما ينتظره أصبح قريباً، أخرج صلاح هاتفه من جيبه بسرور غامر، ووجه مبتسم، ثم شرع يُبلغ زملاءه أنه سيتحرك للمكان المقرر لاحتفالهم وليتأكد من مشاركتهم أيضاً في ذلك الاحتفال، خرج من منزله بسيارته المتواضعة متوجهاً للاحتفال. لم يكن كعادته في قيادة السيارة، فقد كان متهوراً ومسرعاً. كان زميله جون برفقته، اندهش جون من طريقة زميله صلاح في قيادة السيارة تلك الليلة.
لم يتمالك جون نفسه فقرر أن يعرف السر وراء ذلك.

لماذا اليوم أنت تقود السيارة بسرعة شديدة لم أعهدك تعمل ذلك من قبل؟ سأله جون.
كي نصل مبكرين ونجلس في المقاعد الأمامية لنتمكن من رؤية مشاركة موطني بوضوح؟ أجاب صلاح.

وصلا إلى المكان المقرر للاحتفال.. جلسا في الأمام.. بدأت برامج الاحتفال.. شاركت دول عديدة برقاصات وأغانٍ ولقطات كرنفالية غاية في الروعة.. استمتع صلاح وجون بتلك اللحظات الجميلة وبمشاهدة ثقافات الدول الأخرى.
مرت الساعة الأولى وكأنها دقيقة وهم بانتظار مشاركة دولة صلاح.. ثم مرت الساعة الثانية من ذلك الحفل وهم ما زالوا بانتظار هذه المشاركة على أمل أن تأتي ولو متأخرة.. ولكن دون جدوى.
يا إلهي ما الذي يجري؟!
عدد كبير من الطلاب في هذه الجامعة من موطن صلاح وقد اعتادوا على المشاركة في ذلك الاحتفال.
أين هم هذا العام؟ ولماذا لم يشارك أحد؟
يا تُرى ما الذي جرى لهم؟

ثم كانت المفاجأة عندما جاءت فقرة ظهور الدول المشاركة لتصعد على المسرح بأعلام أوطانها، لقد صعد المسرح ما يقارب 15 دولة لتعرض أعلامها وتفتخر بثقافتها، غير أن علم دولة الطالب صلاح اختفى هذا العام فجأة ولم يظهر على المسرح كما كان من قبل.
صلاح وجون كانا في دهشة وذهول من هذا الأمر.

ما الذي يجري بحق السماء؟
لم يستوعب صلاح ما حصل.. لم يكن يخطر بباله أن يغيب عَلم دولته، وتختفي مشاركتهم في ذلك الحفل الثقافي فجأة هذا العام.

لم يكن يدرك صلاح حينها أن ثمة أموراً قد غيّرت الواقع وأحبطت نفسيات زملائه حتى أنه لم يعد أحد منهم يشعر بالسرور والرضا عن الحال الذي يعيشه.. صلاح كان جل وقته لدراسته، ثم يقضي ما تبقى من وقته متنقلاً من مكتبته المنزلية إلى مكتبة الجامعة، باحثاً، وقارئاً لا يعلم عن السياسة شيئاً، ولا يدرك تأثير ما يجري على الأرض في نفوس الآخرين.

عندما تيقن من غياب عَلم دولته في ذلك الاحتفال اقترب من زميله جون ثم همس في أذنه بصوت خافت قائلاً:
مَن المسؤول عنا؟
ما المسؤول بأعلم من السائل.. أجاب جون.

حينها غادر صلاح مقعده حزيناً، كئيباً، غاضباً، غادر المكان فجأة، لم يخبر زميله بنية المغادرة، فقد كانت مغادرته لذلك المكان خلسة.

جون ظن أن زميله ذهب ليقضي حاجةً له ثم يعود، غير أن شيئاً لم يكن. قرر جون أن ينتظر زميله وهو يقول في نفسه: لعله يعود، مرت الساعة الأولى وجون بانتظاره، ثم الساعة الثانية، لكنه لم يعُد.

انتهى الاحتفال الذي استمر لقرابة الأربع ساعات، ثم غادر جون حينها باحثاً عن صديقه، لعله ذهب هنا أو هناك. اتصل بهاتفه لم يجب، سأل عنه لكن دون جدوى، قرر جون أن يعود من الاحتفال وحيداً، وما زال يحدث نفسه عما حصل لصديقه وأين ذهب.

في طريق عودته فكّر جون بأن صديقه صلاح قد يكون عاد إلى منزله فتوجه إلى منزل صديقه، وصل إلى جوار منزل صلاح يتحسس أخباره وإذا بأنوار المنزل منطفئة، جلس في الخارج قليلاً، الوقت كان متأخراً بعد منتصف الليل بساعة أو يزيد، كان الجو ممطراً ومظلماً، والبرد قارساً، والرياح شديدة تكاد تأخذه معها، الناس نائمون، والمكان مرعب ومخيف. جون لا يكاد يسمع إلا نقيق الضفادع من بين المياه، وصرير حشرات المساء من بين الأشجار الكثيفة بجوار منزل صلاح. كان جون خائفاً وقلقاً، كل شيء لا يبدو طبيعياً حوله..
قرر أن يتوجه إلى الباب ويطرقه مرات عديدة لعل أحداً هناك..
طرق الباب لكن لم يجبه أحد..
جون أدرك أن شيئاً ما حصل لصديقه..

يا إلهي ماذا جرى لصلاح؟!
تليفونه لا يجيب، أنوار منزله منطفئة وكأنه لا أحد بالمنزل.

عاود جون طرق الباب، ثم دفعه بقوة حتى انفتح، حينها لم يتمالك نفسه، دخل المنزل مهرولاً، يبحث هنا وهناك، لعله يجد صلاح، بحث في كل مكان بالمنزل لكنه لم يجده، قرر حينها أن يأخذ وثائق وإثباتات زميله وصوره كي يُبلغ عنه السلطات في المدينة حتى يتمكنوا من البحث عنه.
فجأة سمع جون صوتاً غريباً، وكأنه أنين رجل يتألم..
ذهب جون باتجاه الصوت وهو يرتعد خوفاً من ذلك الصوت الذي يبدو وكأنه شبح بالمنزل، اقترب من ذلك الصوت قليلاً وهو يهمس الأرض همساً فإذا به في مخزن المنزل، دفع باب المخزن بحذر ورعب شديدين وإذا به يتفاجأ بصديقه صلاح ممداً على الأرض كأنه صخرة من جبل، قد بلغ به الهم والحزن مبلغاً عظيماً، عيناه محمرتان، تنهمر منهما الدموع، عابس وجهه، تبدو عليه علامات الحزن والغضب والحيرة مما جرى في ذلك الحفل، ما أن رأى جون إلا وتقدم إليه يترنح في مشيته حتى جلس أمامه ثم اقترب منه وهمس في أذنه بصوت خافت، وحشرجة حزينة، قائلاً: يا جون..

لماذا غابت بلادنا هذا العام من هذا المهرجان ولماذا اختفى عَلمها؟ مَن المسؤول عنا؟
ما المسؤول بأعلم من السائل! أجاب جون

نظر صلاح إلى السماء ثم طأطأ رأسه إلى الأرض وبدأ يكيل التهم يمنةً ويسرةً ويسأل: أليس لدينا مندوب للطلاب؟
أجاب جون: بلى لديكم مندوب للسفارة ولكنه لم يحضر يبدو أنه كان مشغولاً بأمر آخر.
حينها قام صلاح من مكانه حتى استوى قائماً فصاح قائلاً: آآآآآه عليك يا وطني..
ما كان ينبغي لك أن تغيب من بين البلدان، يجب أن تكون حاضراً.
ثم عاود صلاح السؤال: أين هم الطلاب اليمنيون؟
فأجابه جون: حضر بعضهم ولكن من حضر لم يأخذ معه العَلم اليمني.
حينها تنفس صلاح نفساً عميقاً بحسرة وأسى ثم انفجر باكياً. ظل يبكي برهة من الزمن ثم تساءل قائلاً: وأين هم الطلاب المبتعثون في هذه الجامعة؟
فأجابه جون: لم يحضروا أيضاً ومَن حضر لا يهمه الأمر ولا تهمه مشاركة اليمن في الاحتفال هذا العام.

عندها جنّ جنون صلاح، فأرغى وأزبد، ثم بدأ يصيح ويصرخ، تارة على زملائه، وتارة على السفارة، وتارة على منسقي الاحتفال.

حضر الجيران لسماعهم صوت صلاح وصراخه..
نادى الجميع على صلاح فخرج من ذلك المخزن وهو يحدق فيهم بعيون حمراء موحشة، ثم انطلق يصول ويجول في شرفات المنزل ذهاباًً وإيابا وهو يصيح، ويرعد، ويزمجر، ويتمتم بكلمات لا يفهمونها.

كان الذهول سيد الموقف.. المتواجدون كانوا في حيرة من أمرهم وهم يرون صلاح في ذلك الحال.
أدرك جيرانه أنه أصيب بصدمة نفسية..

مرت تلك الليلة وكأنها عام كامل، بقي جون بمنزل زميله وبجواره كما ظل معه أيضاً بعض من جيرانه حتى طلوع الفجر، لم ينم أحد منهم.

وعندما طلع الصباح، خرج صلاح من منزله كالأسد الجسور، فقد كان طويل القامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات. الكل كان يراقب هذا الرجل بصمت، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو الحديث معه، فقد ازدادت حالته النفسية سوءاً.
عن بُعد ناداه جون: إلى أين أنت ذاهب يا أخي؟

غير أنه لم يجِب، ولا يزال على حالته تلك من الغضب، والحزن، والحيرة على اختفاء علم بلاده في ذلك الاحتفال. كانت تلك آخر لحظة جمعت جون بزميله، بعدها غادر صلاح منزله مسرعاً كالمجنون، لم يأخذ معه شيئاً سوى حقيبة ملابسه ووثائقه.
جون لا يعلم إلى أين سيتجه زميله..
خرج جون يمشي خلف صلاح ليعرف الوجهة التي يريد أن يذهب إليها.
جون يسأل صلاح ويحاول أن يعرف إلى أين يريد أن يذهب، غير أن صلاح ظل صامتاً لا يرد إلا بالدموع التي كانت تتساقط على خديه من حين لآخر.

وصل صلاح إلى الشارع الرئيسي، ثم استوقف تاكسي أجرة والتفت إلى جون ونظر إليه نظرة حزينة، نظر إليه نظرة توحي بالوداع الأخير، ثم اقترب منه، فعانقه بصمت، ثم انطلق بذلك التاكسي ملوحاً بيديه لجون بالوداع من خارج زجاج التاكسي.

جون لم يعد يعرف شيئاً عن صلاح، ولا يعرف ماذا صار به.

مرت الأيام وجون ما زال يتذكر زميله.. يتذكر أيام الفرح والمرح التي كانوا يقضونها معاً.. يتذكر أيام دراستهم وجلوسهم مع بعض في القاعات الدراسية.

تفاجأ جون ذات يوم بهاتفه يرن، كان الرقم جديداً وغريباً ومن دولة أخرى، رفع هاتفه وإذا بالمفاجأة التي لم يكن يتوقعها، إنه زميله صلاح يتصل من اليمن، كانت المكالمة فيديو، ومن جبهة القتال تحديداً يهاتف صلاح صديقه جون وهو حامل للكلاشنيكوف على كتفه، بعد أن خلع حقيبة الكتب والأقلام التي ظل يحملها سنين طويلة، ويحمل بداخلها كل أحلامه وأمانيه في بناء مستقبله.

جون فرح واستبشر وتهللت أساريره لسماعه صوت زميله، غير أنه لم يصدق الحالة التي وصل إليها زميلة.
لقد تغيرت ملامح صلاح كثيراً، نقص وزنه.. وشحب وجهه.. وانتفش شعره..
لم يعد صلاح ذلك الطالب الملائكي المظهر. لقد بدا وكأنه محارب من العصر القديم.

فرح جون بذلك الاتصال، ولكنه تأثر من الحالة التي رأى زميله فيها، حاول جون أن يقنع زميله بالعودة لإكمال دراسته، لكن دون جدوى.
أخبر صلاح زميله جون أنه لم يعد قادراً على إكمال دراسته، فالحرب قد قضت على كل ما هو جميل في الوطن، الاقتصاد انهار.. والعملة تدهورت.. والمرتبات انقطعت.. والمنح الدراسية توقفت.

أخبر صلاح زميله جون أنه لا خيار أمامه إلا أن يظل في جبهات القتال مدافعاً عن الوطن فلم يعد هناك شيء يستحق الحياة.

في اليوم التالي حاول جون أن يهاتف زميله ليواصل معه مشوار إقناعه بالعودة إلى الهند لإكمال دراسته، لكن صلاح لم يرد هذه المرة لقد كان هاتفه مغلقاً، حينها ذهب جون إلى الفيسبوك ليرسل لزميله ويخبره بأنه يرغب في الاتصال به. وهنا كانت الصدمة الكبرى، لقد قرأ جون خبراً لم يكن يتوقعه ولم يخطر له ببال، إنه خبر استشهاد زميله صلاح يظهر لجون في الفيسبوك.

آه.. آه عليك يا صلاح! جون يتأوه.. ويتألم.. ويبكي.. لهذه النهاية التي لم يكن يتوقعها لزميله صلاح.

كان جون يحلم بأن يرى زميله بروفيسوراً ينير دروب الآخرين وينهل أبناء الوطن من علمه الغزير.
لكنه رحل الى ربه.
رحل صلاح طالب الدراسات العليا الذي كان يأمل في أن يساهم بطموحه في بناء وطنه.
لقد رحل صلاح ورحلت معه أحلام شعب.. رحل صلاح ورحلت معه أماني كل أبناء الوطن..
ليس هذا حال صلاح فحسب بل حال كل أبناء اليمن.

نزل نبأ موت صلاح كالصاعقة على زميله جون، لم يستوعب جون ما جرى لزميله، أغلق صفحته بالفيسبوك ويداه ترتعشان، ثم صعد على سطح منزله وهو يبكي ويخور بالبكاء لفقدانه زميله، ثم صاح قائلاً:

إنها لعنة الحرب!
إنها الحرب من غيّبت موطن صديقي وأخفت عَلم دولته!
إنها الحرب مَن اغتالت شباب العلم وأيقظت الجهل!
إنها الحرب يا سادة! أفلا تعقلون؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد