يبدو أني قصَّرت في حقِّ كليم الله، ولم أقرأ بوعي قصته الخالدة التي كرَّرها القرآن في مواضيع عدة، الجهل بالتسلسل الزمني لقصة موسى صلى الله عليه وسلم أضاع عليَّ تأملات كثيرة ودروساً خفيت عني. ولولا ستر الله وتوفيقه أن هداني لقراءة قصص الأنبياء لابن كثير بإمعان، وخاصة باب ما حدث لبني إسرائيل في التيه، لظللت على جهلي، فلله الحمد والمنة.
تعلمت مبدئياً أن التيه وقع لقوم موسى، وهم بنو إسرائيل [نسل يعقوب (إسرائيل نفسه)]، والذين هادوا منهم (أي تابوا) أصبح اسمهم فيما بعد اليهود. والنكتة هنا أن بعض بني إسرائيل لم يغادروا مصر مع قوم موسى وبقوا بمصر. والشيء بالشيء يذكر، فإن القرآن لم يذكر عيسى عليه السلام ينصح بني إسرائيل بقوله "يا قوم" ولا مرة واحدة.
وذكر الأستاذ عبد الدائم الكحيل في موقعه للإعجاز العلمي للقرآن والسنة، أن مخاطبة الناس بـ"يا قوم" يلزمه الانتساب إليهم عن طريق الأب. ولما كان هذا لا يقع في حق كلمة الله عيسى ابن مريم، فقد توجب عليه مخاطبتهم بـ"يا بني إسرائيل".
نعود لقوم موسى الذين لم يكونوا بكامل هيئتهم مؤمنين برسالة موسى، فأذاقوه عليه السلام ألواناً من الشغب والمعصية في هذا التيه، ما أعياه وأفضى به أن دعا عليهم. ربما يفاجئك كما فاجأني أن أغلب قصص موسى مع قومه لم تكن إلا في التيه، وهذا هو المقصد من هذه المدونة.
فقصة السامري في التيه، وقصة البقرة كانت في التيه (وهذا يعني أنه كانت هناك مزارع وأبقار)، وقصة رفع الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل في التيه، وقصة قارون في التيه (يعني كانت هناك قصور وأموال). وقصة المَنّ والسلوى كانت في التيه، وقصة تفجير الأرض اثنتي عشرة عيناً كانت في التيه، وقصة الخضر كانت في التيه، ووفاة هارون ومن بعده وفاة موسى عليهما الصلاة والسلام كانت في التيه.
كان السؤال بذهني كيف يقع كل هذا في أربعين سنة، وبنو إسرائيل تائهين بالصحراء؟ رجعت إلى المعجم اللغوي لأجد ضالتي، وإن كان من معاني التيه فقدان الطريق فإن من معانيه أيضاً الحيرة واضطراب العقل والسرحان (دوام النظر إلى شيء دون التحقق منه). نحن إذاً في ورطة لا يعلمها إلا الله، فالمرء منا ربما يكون في التيه وهو في عقر داره وبين أهله وله وظيفة ومكانة بل سلطة، كل ذلك لأنه لم يدرك من أين بدأ وإلى أين ينتهي.
التيه فتنة، نتجنبها بتثبيت إبرة البوصلة على صحيح النية. بغيرها التيه لا محالة هو المصير. ذكر ابن القيم كلاماً رائعاً في تصحيح النية، وكيف أن الشيطان همه الأول مع الصالحين هو إلباس النية عليهم، فيقول لك إنك لم تفعل هذا العمل الجيد ابتغاء وجه الله لأنك تسعد بمدح الناس لك، فكف عنه، فيكفون عن فعل الخيرات.
ابن القيم ذكر أن علاج هذا التلبيس نوعان، أولهما أن تتذكر أن بداية فعل الخير كان لوجه الله، وأما توابعه من ذكر حميد أو جائزة مالية أو معنوية فلا يفسد بحال إخلاص النية المبدئية.
ثانيهما، أنك تستطيع أن تعدل نيتك بوسط العمل، إن لم تنته منه وتجعلها لوجه الله. وأتذكر هنا أخي وصديقي أبا عبدو، وقد كنا عنده ثم قمنا لنقابل صديقاً آخر بالمسجد. جلسنا بالسيارة ثم مكث برهة لا يدير مفتاح السيارة، فسألته "خير هل هناك شيء؟". قال: "أُعدل نيتي أن أذهب للصلاة بدايةً ثم نقابل صديقنا إن شاء الله". كم تعلمت كثيراً من هذه الوقفة.
اللهم قنا التيه وبصِّرنا بالطريق المستقيم، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، آمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.