تقفُ في الشرفة، وحدها، كاشفة شعرها وقلبها للسماء، لنسمات الفجر، قد مسّ قلبها الحزن مرة، حين سقطت وهي في عمر السنتين، ولم تجد أمها، عرف الحزن طريق قلبها، من حينها لم يرحل، ولم يبقَ، بل آثر الزيارات، حتى لا يعوّدها عليه فتستسيغه وتذهب هيبته.
آثر أن يذوق قلبها الفرح، فيعرف مرارة فقده برفقة الحزن، لا يحب الحزن كون يكون وحده، حتى الحزن.
قد مسّ قلبي، مسّه وتعلّق به، كالحمامة التي قيدت رجلها بصخرة كبيرة، كلما حاولت المقاومة والطيران زاد الألم، كلما مس قلبي حزن، تعلقت برجل الحمامة صخرة، عرفت الحزن ولم آلفه، بل أهرب منه دوماً، لأول خيال ابتسامة، لأول خيال حلم، لأول نجمة.
في كل مرة أُصدّق فيها، تكن هناك صخرة تنتظرني، لكن كانت الحمامة البيضاء دوماً تمر، لم تتركني، في أول صلاة فجر وددت فيها ألا تنتهي، وفي كل مرة يغشاني جميل ستر الله، وفي كل مرة يبتسم طفل لي، وفي كل مرة يراني فيها شخصاً بأني طيبة، وفي تلك الأيام التي لم يترك القرآن فيها لساني، كنت أدندن بالآيات، وفي تلك الضمة التي سرقت فيها الوقت ولم يحسبها عليّ، وأصبحت لأول مرة "إسراء 1: الوقت 0".
مرت الحمامة يوماً، حمامة بيضاء، في سواد الليل وسكونه وهياجي، هدّأت من رَوعي المستكين، روعي الذي أهرب منه، روعي الذي جعلني أصرخ بكاءً لساعات دون سبب حقيقي، هدّأت مني، ثم رحلت، لكنها مسّت قلبي.
قلبي ليس حمامة، قلبي يمسه الطيب من عند الله، ويثقله الصخر من عندي.
"يا ربُ عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا.."، تتردد في، دون صوت، تتكرر باستمرار، قد مست قلبي، وقد تمنى شيئاً ما فيني صدقها، تمنى صدقها فقط فما عاد يفلتها.
تلك الجلسات الصغيرة، التي تتحدث فيها واحدة منا عن معنى ما قد مسها، تلك الجلسات المتباعدة زمنياً، المتقاربة في التأثير، تجلس إحدانا لتحدثنا عن معنى قريب من قلبها في تلك الآية، فنصمت جميعاً لتنتهي، محاولةً منا لأن نصل لذلك المعنى، تشارك كل منا بشيءٍ قد مسها ولم يتركها، من كرم الله عليّ تلك الجلسات.
"قالت الحمامة للعنكبوت، أُخيّ تذكرتني أم نسيتي..".
مريم، ذات الصوت الجميل، قد أسرني صوتها وكلمات القصيدة لتميم البرغوثي، لطالما تردد اسمه أمامي، لكن لم أهتم اهتماماً حقيقياً يوماً أن أستمع إليه، لكن صوت مريم قد حطّ بقلبي الارتباط بقصائده.
يرتبط حب الأسماء عندي بأشخاصهم، كل اسم أحبه، اكتشفت أن شخصاً ما كان يملك هذا الاسم قد مر، وترك أثراً، وذاك الأثر إن لم أرَه، فقد ترك عندي حب اسمه.
لو أن كل مرورنا هادئ، طيب! لا يترك سوى ملمح لا يلفت النظر، لو أن كل مرور يترك حباً للاسم، دون أي تفصيل زائد، أو حديث كثير، يستمر أياماً، ثم يرحل للأبد.
تعبير وجهها المصمت، وجهها صاحب الملامح الجميلة، الذي يتزين بالحجاب أو بدونه، وصاحبة الملامح التي لو دققت فيها لرأيت معنى اسم الله "اللطيف"، و"باربي" الجميلة، التي ما صرفها جمالها عن دينها، يخبر الناس أن الجميلات أغبياء، لانصرافهم عن المعرفة بالجمال، وصاحبة العيون الصغيرة والصوت الجميل حين تقول: "آلمتني بالعود يا خير الورى..".
كل تلك ملامح قد مسّت القلب ولم تتركه.
هناك لحظات لن تتكرر، تأتي مرة، ثم لا تعود ثانية، تاركةً في قلوبنا رغبة شديدة بأن نتذوقها مرة أخرى، مرة واحدة فقط، لكن وحتى إن فعلت، لن نكتفي، سنطالب كل مرة بمرة أخرى واحدة، كآخر شخص خارج من النار، يطلب الظل مع قوله إن هذا يكفيه، ثم يطلب الظل والثمر مع قوله إن هذا يكفيه، ثم يطلب أن يرى أصحاب الجنة، ويستمر بالطلب، حتى يستحي من الله، فيضحك الله، ويضحك كل راوٍ لذلك الحديث.
أعلم أن كتابتي هذه رديئة، وأنا لا أطالب بألا تكون غير هذا، أو أطالب به، لكن ليس هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.