مؤسسات المجتمع المدني في التربية والتعليم.. ما لها وما عليها

يلاحظ حالة فريدة من الشغف لدى طلاب المراحل الأساسية الأولية عند مشاركتهم في التعليم التكاملي المدني، هذا الشغف والمشاركة الحماسية يدلان على الحاجة المتزايدة من أجل إشباع تلك الفجوة، وهو أيضاً كسر لصنم كبير لخرافة أن الطلاب هم أنفسهم من لا يريدون التغيير والتعليم الحقيقى..

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/24 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/24 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش

رنَّ الهاتف بنبضاتة المتقطعة؛ الرقم المكون من ثمانية أرقام يبدو غير مألوف وغريباً ليس من صديق، أو قريب، أو حتى زميل، على الطرف الآخر كان معي على الهاتف مؤسسة (إنجاز مصر Enjaz Egypt)، وهي من كبريات المؤسسات المدنية التعليمية في مِصر، ولديها أفرع عدة في الوطن العربى.

كلمتني التي كلمتني داعيةً إياي لِمُقابلة تطوع كنت قد تقدمت إليها سلفاً منذ أسبوعين على تلك المقابلة، التي ذهبت إليها في الميعاد المحدد، وفي البناية الضخمة قابلتني المختصة بالترحيبات والود المستتبع بالعديد من الأسئلة حول الدور المطلوب مني أن أشترك به متطوعاً من وقتي وقدراتي.

بعد أسبوع مباشرةً من تلك المقابلة بدأنا في العمل المطلوب الذي كان يتلخص في دعم التعليم الأساسي في المدارس الحكومية بالعديد من المحاضرات التي وضعتها المنظمة المدنية والتي رأت فيها غاية الأهمية والتي تفتقدها وللأسف الشديد العديد، إن لم يكن كافة المدارس الحكومية، والتي عادةً ما ترتبط تلك الأخيرة بالتعليم المباشر الجاف ورص المواد الدراسية دون أدنى اكتراث بالبنية النفسية، والدعم بالمواد السائلة للطالب.

على الطرف الآخر يبدو التعليم الرسمي الحكومي في مصر مغلول الأيدي والأرجل بميزانيات محدودة، وأعداد مكتظة هائلة في انتظار الخدمة، وسط تماهٍ من الإمكانات الضعيفة والقليلة بالشكل الذي يجعل من وجود إضافات للتعليم الأساسي/ الصلب أمر في غاية الترف.

لكل ما سبق توجهت وتحركت العديد من المؤسسات المدنية لسد تلك الفجوات والعوارض الناشئة عن هذا الخلل ما بين الفعلي والمطلوب.

هذه الالتفاتات وإن كانت ليست كافية بالشكل الكافي، إلا أنها تمثل خطوة على طريق طويل من أجل سدّ تلك الفجوة الواسعة خاصة مع ملاحظتنا ذلك التنامي الكبير والمطلوب من مختلف المؤسسات المدنية في توجيه أجزاء من ثقافتها التنموية نحو التعليم، ذلك الأمر في حد ذاته يُعتبر الإنجاز الأكبر؛ لأنه يفتح الباب واسعاً على أعمال كانت حتى وقت قريب لا يجوز الاقتراب منها أو المساهمة فيها.

بالعودة إلى تجربتي الشخصية أسجل العديد من الجوانب التي أثارت الكثير من الشجون والتأملات أذكرها إجمالاً في الآتي:

* يلاحظ حالة فريدة من الشغف لدى طلاب المراحل الأساسية الأولية عند مشاركتهم في التعليم التكاملي المدني، هذا الشغف والمشاركة الحماسية يدلان على الحاجة المتزايدة من أجل إشباع تلك الفجوة، وهو أيضاً كسر لصنم كبير لخرافة أن الطلاب هم أنفسهم من لا يريدون التغيير والتعليم الحقيقى.. إلخ.

* هذا الشغف يمكن رؤية انعكاساته جلية بوضوح في التنامي السريع لمعدلات التعليم الموازي، الذي تفشى ويتفشى بسرعات جنونية كاشفاً عن الضرورة الماسة للتدعيم والتكميل العاجل لنواقص التعليم الأساسي الحكومي.

* يلاحظ أن المؤسسات المدنية الأجنبية النشأة والتكوين بفروعها داخل البلدان العربية أكثر تطوراً وتحديثاً وديناميكية من نظيراتها من المؤسسات المحلية العربية النشأة والتي ربما قد تكون حملت في بذور تأسيسها ونشأتها الفكر البيروقراطي والروتين والتصلب.

* حتى هذه اللحظة يبقى دور التعليم الناتج من الدور المدني دوراً تكميلياً لنواقص التعليم الرسمي الأساسي. ففي تلك المؤسسات لا يتم تعليم الرياضيات أو قواعد الإنكليزية، أو العلوم.. إلخ من مواد رئيسية أساسية، بل يرتكز دورها على غرز قيم تدعيمية بالتوازي مع الدور الرسمي مثل غرز قيم التفكير العلمي السليم، وكيفية التعامل مع الآخر وزرع قيم التقبل والتعايش السلمي مع الاختلاف، وتقبّل الذات.. إلخ تلك الدواعم والتي ينظر إليها التعليم الرسمي على كونها ترفاً، رغم أنها -ويا للعجب- من صلب التعليم وأساسيات التربية.

* يُلاحظ أيضاً في التعليم غير الرسمي التكاملي القدرة الكبيرة على المرونة وسرعة التأقلم مع التغييرات المختلفة بما يسمح لها بالتجديد والتطور السريع، ولعل السر في ذلك ليس فقط ابتعاده عن المنظومة الرأسية الرسمية بما تحمله من جمود شديد في التغيير وقلة سيولة، ولكن أيضاً لأسباب خاصة بهيكلية المجتمع المدني في حد ذاته، والذي يتمثل دوره بالأساس في المراقبة المستمرة للمجتمع والمتغير بطبعه بما يدعمه من مراقبة، وتحليل وتلخيص بنتائج يضمن معها المجتمع المدني استمراريته وقوته، وهو ما ينعكس بالتبعية على مخرجاته، ومنها التعليم الموازي/ التكاملي.

* من واقع تجربتي ومن واقع ما شاهدت ورأيت، أعتقد أنه لا يجب أن يأخذ التعليم المدني دور التعليم الرسمي بأي صورة كانت من الصور، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها بالطبع ضرورة وجود مُقدم خدمة تعليمية رئيسي بما ينسجم مع أحد أبرز أدوار الدولة في تقرير وجود الحق للجميع بالحد الأدنى من المبادئ الرئيسية الثابتة لكافة مواطنيها.

لذلك نرى ضرورة إبقاء الدور المجتمعي المدني تُكاملياً أكثر منه تنافسياً؛ وذلك لأن بنية المجتمع المدني على الطرف الآخر هي الأخرى لا تتحمل كل هذا الثقل وكل تلك المسؤولية كمنافس للتعليم الرسمي.

كما أنه من الملاحظ أن الدور التنافسي سيفقد كلاً منهما المغزى الرئيسي للتعليم عبر طرح دخان كثيف من التشتت والشتات بين الجميع وضد الجميع.

بقي لنا القول إن من الضروري الاتساع في حجم التعليم المقدم من الجانب المدني وذلك على النحو الذي يساعد التعليم الرسمي لا ليأكل منه، بحيث يخرج الجميع بمكاسب ناتجة عن منتج نهائي (الطلاب) يُلبي المتطلبات الأساسية للتنمية الشاملة للجميع، فيتحقق حينها الدور المطلوب للمجتمع المدني، الذي لن يحدث سوى بتقديم الأنظمة الرسمية يد العون لا التشكك والريبة نحو تلك المؤسسات المدنية في مناخ من الحرية البناءة والنقد والتطهير الذاتي.

حينها وفقط يصبح لدينا مجتمع مدني قوي وحر، وأنظمة رسمية تدرك جيداً ما لها وما عليها، فلا تطغى في الأولى ولا تقبض في الثانية، والأمر بينهما عظيم وجليل.

يقول لنا الشاعر: وما نَيِلُ المطالب بالتمني، فهل للأماني أن تتحقق؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد