السبت، أسبوع قبل عيد الأضحى، استيقظت صباحاً، أحضرت فنجان القهوة المغربية الممزوجة بالأعشاب، لم أستطِع تناول الإفطار كالعادة، بسبب فقدان الشهية الذي أعاني منه لفترة، لم أخبر أمي به، ليس خوفاً من انزعاجها أو من توبيخها، لكن الأصح أني أعلم أنه بإخباري لها ستأخذني بالحديث إلى تفاصيل التفاصيل؛ لتكتشف السبب وراءه.
فتحت هاتفي وتصفحت الفيسبوك، تجاهلت الرسائل التي وصلتني، استغربت كيف يدمن البعض على هذا الموقع.. أثار فضولي ما كتبته صديقة فيسبوكية "دخلت إلى الديب ويب، كان الأمر مشوقاً ومخيفاً ولن أعيد هذه التجربة"، لم أسمع عن شيء من قبل اسمه الديب ويب، أو ربما لم أنتبه له، صعدت إلى سطح منزلنا الذي اعتاد الجميع أن يعثر عليَّ فيه؛ إذ يشعرني بالراحة، أجلس على الأرض وعندما يضيق صدري أتطلع في السماء، حتى الصلاة لها نكهة مختلفة هنا.. اتصلت بصديقي مهاد لأستفسر عن الديب ويب، وأحكي له ما كتبته تلك الصديقة، قال: كل ما أعرفه أنه من خلاله يتم تأجير قاتل دون أن يتم الكشف عن هوية كلا الطرفين.. ثم أخبرني عن قصة عارضة الأزياء التي تم اختطافها بينما كانت تقضي إجازتها في إيطاليا، وبعد بحث طويل تم العثور عليها وهي تباع في سوق للنخاسة بإحدى دول الخليج، تم استئجار الخاطف من الديب ويب..
دخلت إلى المطبخ ساعدت أمي في اللمسات الأخير لتحضير الغذاء، جهزت المائدة ناديت إخوتي وتجمعنا حول المائدة، تظاهرت بالأكل ثم رنَّ هاتفي، ابتسمت كأنه أيقظني من ورطة وغادرت المائدة بسلام.
بعد الغداء خرجت أمي للتسوق مع أخي لشراء مستلزمات العيد، وقالت إنها ستزور خالي.
قررت أنا أيضاً الذهاب إلى وسط المدينة لشراء بعض الكتب، لكن بعد صلاة العصر، تفقدت بريدي الإلكتروني ثم أرسلت بعض الإيميلات.. وددت لو فتحت الواتساب ثم ترددت، ربما تصلني رسائل توبيخية من أحدهم كالعادة بسبب عدم ردّي على الرسائل فأنزعج ويتعكر مزاجي، لن أفتح.
أذن العصر صليت ثم ارتديت الملابس التي كنت اخترتها وخرجت، جلست في المحطة في انتظار الترام، أتأمل مسجد عقبة بن نافع وأتذكر صلاة الجمعة التي صليتها السنة الماضية هنا، يأتيني صوت الشيخ عز الدين توفيق الذي كان خطيب الجمعة بالمسجد، أتساءل في قرارة نفسي: كيف هان على شيخنا أن يترك المسجد وينتقل إلى آخر؟ يقاطع تأمّلي هذا وصول الترام، أصعد إليه أبدأ بالاستغفار وأترك عينيّ تتأملان هذه المدينة الشبح.
محطة ساحة الأمم المتحدة، أنزل من الترام أبدأ في التجول، صديقي بائع الكتب الذي تعودت شراء الكتب منه وأخذ رأيه أحياناً ليس هنا ربما غيَّر مكانه أو لديه أمر طارئ.. الشارع مكتظ بالباعة المتجولين، وبعض المارة يتجمعون حول ذاك المغني الذي أخذ مكانه في هذه الساحة وأصبح معروفاً.. أقف أمام بائع كتب آخر أتفقد، لكن لا أرى الطنطورية أسأله عن روايات رضوى عاشور يقول إنها غير موجودة لديه.. أدخل إلى إحدى المكتبات ألمح الطنطورية، أبتسم هاهي متربعة في الوسط كأنها عروس، أحملها وأسأل عن ثمنها يأتيني الجواب: مائة درهم.. أضعها ببطء فثمنها غير مناسب لفتاة تشتري كتاباً أو كتابين أسبوعياً.. أتجول أكثر ثم أجد بائعاً كتب آخر، ها هي الطنطورية وبجانبها غربة الياسمين، أبتسم من جديد، وأسأل كم ثمن هذه؟ يأتيني الجواب الذي أريد: ثلاثون درهماً.. أبتسم أكثر ثم أسأل وغربة الياسمين؟ يجيب: أربعون، تفضلي إلى الداخل هناك كتب ستعجبك أكثر.
يضع أمامي ثلاثية غرناطة، فأقول: قرأتها ثم في قلبي أنثى عبرية وقواعد العشق الأربعون، أجيب: قرأتهم. أتأمل غربة الياسمين وأرض السافلين ورواية لكاتب أجنبي لم أسمع به من قبل، أحتار ثم أحدّث نفسي في حوار مضحك سأكون عادلة أحمل رواية لكاتبة الاختيار الثاني يجب أن يكون لكاتب، أشتري الطنطورية وأرض السافلين وأعود إلى المنزل..
اشتريت الطنطورية من حبي لثلاثية غرناطة التي أحبتها ولا أجد وصفاً لها سوى أنها ملحمة تاريخية، لم أكن أدري أن الطنطورية تحكي عن النكبة إلا بعد شرائها.
في هذا الأسبوع الطنطورية أخذت مكان الهاتف، أشغلتني عن أي شيء كنت أقوم به، سافرت بي وهجرتني، زوجتني ورملتني، علمتني حب الوطن ومرارة فقدانه، ذوقتني طعم التفرقة وخذلان الأحبة، أوقعتني في حبها لكنها لم تخذلني.
أخذتني الطنطورية إلى ثنايا فلسطين، تجولت معها في الحارات وبين شجر الزيتون، استنشقت رائحة البحر الممزوجة بزنبق والياسمين، وعشت معها طعم الفقد وليس أي فقد، فقد الأحبة والوطن، لكنها علمتني أن أعيش على أمل العودة، وأن لا أفقد الأمل.
بعد أسبوع من شرائها، أي في ثاني أيام العيد أنهيت قراءتها، استغربت كيف أنهيتها بهذه السرعة وسط انشغالي بتحضيرات العيد وكل مشاغلي، حتى يوم العيد لم تفارقني الرواية.
أمسكت هاتفي وبدأت في الرد على بعض الرسائل التي كنت قد تحاشيتها من فترة.. ثم وجدت رسائلك التوبيخية التي كنت قد تجاهلتها أيضاً، السلام عليكم:
* أين كنت مختفية؟ لمَ لمْ تجيبي على رسائلي؟
– كنت مسافرة.
* أين؟!
– إلى الطنطورة ومن هناك إلى بيروت، مروراً بصيدا، ثم استقريت لفترة في أبوظبي، وأنا هناك ذهبت في رحلة إلى اليونان لـ..
* ماذا؟! كـ..
– كنت مدعوة لحضور زفاف أحدهم، ثم مكثت في الإسكندرية لفترة وختمت هذه الرحلة ببيروت من جديد.. وها أنا عدت.
* هلوسات!!
– لا، إنها الطنطورية أخذت من هنا إلى هناك، أبحرت بي إلى أحداث النكبة والنكسة، وعايشت معها حياة اللاجئين الفلسطينيين ومعاناتهم.. كان أسبوعاً متعباً، أعطتني رضوى عاشور فرصة عيش التغريبة الفلسطينية من جديد بأحداث مشابهة، لكن بنكهة مختلفة.
أتطلع على أرض السافلين، أقرأ ما كتب على الغلاف الخلفي ربما أفهم المقصود من العنوان، لا أجد إجابة على سؤالي، أفتح آخر صفحة من الرواية، مكتوب شكر خاص بكتابة سميكة وكبيرة: ".. أشكر مَن ساعدوني وعلموني كثيراً من الأمور في ديب ويب..".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.