ما زلت واقفاً عند بابك عزيزتي ماري

يا الله.. كم تبذل هذه المرأة من الجهد حتى تشعرني بأني لست غريباً هنا! وكم أنا أحمق حين لم أمنح نفسي فرصة أن أتعامل معها كإنسان!

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/23 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/23 الساعة 04:42 بتوقيت غرينتش

في عام 2010، ذهبت للدراسة في مدينة جوا الهندية، وهي منطقة ذات أكثرية مسيحية تقع على الساحل الغربي للهند. ولأنني أسافر للمرة الأولى في حياتي، فقد وجدت صعوبة في العثور على سكن، اقترح عليَّ أحد الأصدقاء أن أسكن مع أسرة هندية مؤقتاً حتى أجد سكناً مناسباً.

كان الأمر من باب المزاح في البداية، لكنه أصرَّ على الأمر وأعطاني بعض عناوين الأسر التي تستضيف الطلبة الأجانب، ذهبت لزيارة بعض الأسر وكان معظمهم يقابلونني بلطف كبير، لكني وجدت السيدة ماري أكثرهم بشاشة وحفاوة في استقبالي، كانت امرأة في أواخر الستينيات من العمر تسكن بمفردها في شقة متواضعة بالقرب من مدينة بنجيم.

انتقلت إلى السكن الجديد، كانت ماري مسيحية متدينة تحرص على ممارسة الشعائر الدينية والذهاب للكنيسة بصورة مستمرة، كنت أتوقع أن تخبرني عن أمر دينها وتديُّنها؛ لشدة ما لفت انتباهي التزامها الديني، لكنها لم تفعل.

كان سلوكها مدهشاً معي؛ فكانت تقوم بالاهتمام بأدق التفاصيل وتحرص على ألا يزعجني شيء.. كنت أتحدث إلى أصدقائي العرب عنها وعن سلوكها الجميل معي، ولأن بعض الطلاب سبق أن سمعوا عنها فقد كانوا يحذرونني منها ومن أسلوبها في التبشير، وأنها قد تحاول إثارة الشكوك في معتقداتي.

لم يكن أصدقائي فقط، فقد كانت أصوات الوعاظ في البيئة التي ترعرعت فيها تقول الشيء نفسه عن الآخر الذي لم يقابلوه، كانت هذه الأصوات تضرب سوراً بيني وبين السيدة ماري حتى في الحديث اليومي، وكنت أحاول أن أبتعد عنها ما استطعت؛ حتى لا تتأثر عقيدتي كما كنت أظن.

انعكس هذا الأمر تلقائياً على سلوكي؛ فحين أعود من دروسي أقابل ابتسامتها بمجاملات مصطنعة وإجابات مقتضبة حين تسألني عن يومي ثم أنصرف بسرعة إلى غرفتي دون أن أسهب في الحديث معها .

كنت أجد هذا الأسلوب هو ما يجب عليّ فعله وفقاً لنصائح مَن حولي، لكني من الداخل لم أكن مقتنعاً بسلوكي، كنت دائماً أفكر بتفانيها في مساعدتي وحرصها على سلامتي، بابتسامتها التي تشبه ابتسامة جدتي، ونصائحها التي تذكرني بأمي.

كنت أتساءل: ما الذي يصيِّرني بهذا الشكل مع إنسان يتعامل معي بأبهى درجات الرقي، فلم أجد من السيدة ماري ما يدعو للتوجس والخوف؛ بل على العكس تحاول خدمتي بكل ما تستطيع وبصورة تثير الدهشة؟!

فعند شراء الطعام، كانت تقطع مسافة نصف ساعة كي تصل إلى إحدى الأسواق التي يقطنها المسلمون؛ كي تشتري الطعام الحلال، كانت تحافظ على مقتنياتي أكثر مني، وفي كل صباح كانت تطرق باب غرفتي كي أستيقظ لأداء صلاة الفجر!

سألتها ذات مرة: لماذا تحرصين على تذكيري بالصلاة وأنت مسيحية؟ أجابت: "كلانا يعبد الإله نفسه، والصلاة للإله مهما اختلفت صفتها تجلب البركة لنا جميعاً".

مع الوقت، كنت أتعرف على السيدة ماري أكثر وأكثر، كنت خلسةً أتلصص من سور المعتقدات الخاطئة الذي كان يسكنني وأحاول أن أكون في صف ضميري.. ولكن رغم ذلك، كان التوجس لا يزال يحيطني، فقصص الطفولة وتحذيرات الأصدقاء كانت تظهر لي مع كل سلوك حسن أجده منها.

في أحد الأيام، عدت من درسي في بداية المساء لأجد البيت قد تزين لاستقبالي، لقد قامت السيدة ماري بإعداد طبق الحلوى ووضع الزينة في كل مكان.

فوجئت في البداية بسر المناسبة، لكني شعرت بالدهشة حين وجدت عبارة بالعربية "تهانينا بالمولد الشريف"! عرفت لاحقاً أنها استعانت بجارتها المسلمة لكتابتها، كان شيئاً جميلاً بالنسبة لي، فقد كانت تعدُّ الأيام كي تشاركني فرحتي بالمولد النبوي.

يا الله.. كم تبذل هذه المرأة من الجهد حتى تشعرني بأني لست غريباً هنا! وكم أنا أحمق حين لم أمنح نفسي فرصة أن أتعامل معها كإنسان!

في لحظة ما، قررت أن أضع جانباً كل ما قيل لي، قررت أن أنسلخ من القيود التي صيَّرتني رثّاً من الداخل، وأن أتعامل مع ماري كإنسان.. بدأت بالتعامل معها بشكل طبيعي، وكانت تبهرني بحكمتها وبحديثها.

مع الوقت، كنت أحرص على الاستماع إلى آرائها في الكثير من القضايا، أستشيرها في كثير من الأمور التي تخصني، وفي كل يوم كنت أكتشف الوعي الذي تحمله السيدة ماري تجاه الحياة.. حتى في الحديث عن الدين، كانت تتحدث دائماً عن النقاط المشتركة بين الإسلام والمسيحية، لم يحدث أن عقدت مقارنة بين الديانتين كي تظهر صواب ما تؤمن به أو تقلل بديانتي.

تعلمت الكثير من الدروس منها، وأكثر ما علمتني هو أن أكون مؤمناً أكثر، فكانت تحفزني على القيام بواجباتي الدينية على أكمل وجه.

وحين تحدثني عن محمد وعيسى، تذكرهما كمصابيح محبّة، عرفت أن كثيراً من المعلومات التي نحملها عن ديانات الآخرين عبارة عن آراء خاطئة.

لقد اكتشفت أن السيدة ماري هي الشيء الأهم في الهند، فقد جعلتني أسمع عن الآخر الذي حدثني عنه الكثير دون أن يعرفوه، سمعت عنها منها فوجدت أن كل ما قيل لي محض افتراء، وحين استمعت لها لم ينقص إيماني؛ بل العكس تماماً عدت مؤمناً أكثر بديني وإنسانيتي.

أنهيت فترة دراستي وعُدت لليمن، عكفت بعدها على قراءة بعض المواد الموضوعية التي تتحدث عن المجتمعات المتنوعة. وفي المقابل، كنت أسمع الكثيرين بالمساجد والمدارس والنوادي العامة يتكلمون بلا دراية ولا علم عن هذه المجتمعات وعن ضلالها، وكنت أحاول جاهداً أن أبيِّن ما وجدت، وعندما يبحّ صوتي من الحديث لا أملك سوى أن أنكّس يدي حين يصدح بعض الخطباء بالدعاء عليهم.

انقطعت أخبار السيدة ماري عني حتى عام 2015، فقد كان قدري أن أعود إلى الهند مرة أخرى؛ بسبب ظروف الحرب في اليمن.. وحين اقترب عيد رأس السنة الميلادية، قررت التوجه إلى مدينة جوا؛ كي أردَّ شيئاً من جميل السيدة ماري.

ركبت الحافلة، وكعادة المسافات بين المدن الهندية قطعت 20 ساعة سفر حتى أصل إليها.. لم أشأ أن أُعلمها بأمر وصولي؛ فقد أحببت أن أراها تشعر بفرحة المفاجأة التي زرعتها في نفسي قبل 5 أعوام حين احتفلتْ من أجلي بذكرى المولد النبوي.

وصلت إلى المنطقة التي تسكن فيها، لا شيء تغير، الحياة تبدو ساكنة كما تركتها.. صعدت إلى الطابق الثالث في المبنى الذي توجد فيه شقة السيدة ماري.. وقفت على الباب حاملاً طبق حلوى يشبه ذاك الذي قدمتْه لي قبل 5 سنوات، طرقت الجرس منتظراً ابتسامة السيدة ماري وهي تفتح الباب كما كانت تفعل.

كنت أتشوق إلى هذه اللحظة، وكنت أحاول ترتيب الكلمات قبل لقائها.. واصلت طَرق الجرس، لكن الباب لم يُفتح.. ليس من عادة السيدة ماري أن تتأخر!

مرت قرابة الساعة ولم يُفتح الباب.. أشفق عليَّ أحد الجيران وسألني: هل تبحث عن السيدة ماري؟ أجبته: أجل.. قال لي: أنا آسف أن أخبرك بأنها غادرت الحياة قبل عام؛ بسبب صراعها مع المرض ولا يوجد أحد في منزلها.

وجدت نفسي غير قادر على حبس دموعي، فلم أستطع أن أعبر لها عن امتناني لكلماتها التي تركت في نفسي أثراً لألف عام وعام.

عدت وأنا أجرُّ خيبة الفقدان، لقد رحلت ميري الملهمة، رحلت مَن جعلتني مؤمناً أكثر… لقد رحلت وفي نفسي حسرة على الأيام التي قضيتها معها متوجساً من أحاديثها.. كنت أريد أن أُعلمها بأمر توجسي وخوفي الأول وكيف أنقذتني من ذاك الداء.

عند صندوق بريدها الذي يقع بجوار بوابة المبنى، وضعت لها رسالة، شيء بداخلي حدثني بأن الله سيُخبرها عن تلك الرسالة.

"عزيزتي ماري..
كنت أودُّ قول شيء لك قبل الرحيل، ذلك أن الخوف والتوجس لم ينتهيا، لكن هذه المرة من كل إنسان يتعامل مع الآخر على أنه شر محض، ويحجب عن نفسه نافذة الخير والنور التي أودعها الله في قلوب الخلائق.

عزيزتي ماري.. سأظل واقفاً عند بابك، حاملاً طبق الحلوى؛ لعلي أشارك أحدهم فرحة عيدٍ تُفرحك..
لتنم روحك بسلام…
أحمد".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد