قلوب تبحث عن الشفاء

نتعامل مع الألم كأنه مضى، نذكره بصيغة الماضي تأخذنا العزة ونحن نروي قصتنا ملتزمين بـ"عندما كنا..."، نستكمل حديثنا بكل فخر ورضا عن تجربة ظننا أنفسنا تجاوزناها! ونمضي في فخر لا أصل له نخبرهم كم زاد تقديرنا لأنفسنا وثقتنا بقوتنا ونضجنا حتى امتلأنا يقيناً بأننا سنتجاوز كل ما سيأتي، لم نعد نحمل هماً لشيء بفضل ما مررنا به!

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/21 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/21 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش

مروراً بكل مراحل النسيان وبكل الاختبارات التي أجريناها لأنفسنا لنصدّق بأننا أقوياء بما يكفي، وأننا قد تجاوزنا ألماً استطوننا طويلاً، وأخذ من ذاكرتنا ما يكفي، ونُري من شاركونا مأساتنا بأننا لا بأس بنا، نعم تعلقنا وتأملنا، ونعم بما لا يستحق، ولكننا حين قررنا النسيان كنا على ثقة بقدرة قلوبنا على القرار، رضينا بنصيبنا من الألم ومضينا مع خيباتنا وإصرارنا أيضاً، وها قد نسينا فنزهو بما نراه في أعينهم من انبهار واحترام وثقة فيضيف أضعافه إلى قلوبنا.

نتعامل مع الألم كأنه مضى، نذكره بصيغة الماضي تأخذنا العزة ونحن نروي قصتنا ملتزمين بـ"عندما كنا…"، نستكمل حديثنا بكل فخر ورضا عن تجربة ظننا أنفسنا تجاوزناها! ونمضي في فخر لا أصل له نخبرهم كم زاد تقديرنا لأنفسنا وثقتنا بقوتنا ونضجنا حتى امتلأنا يقيناً بأننا سنتجاوز كل ما سيأتي، لم نعد نحمل هماً لشيء بفضل ما مررنا به!

توهمنا عقولنا حين نعبث بذاكرتنا ليلاً فيصيبنا بعض الألم، إنه يجدر بنا، إننا ننظر إليه كحدث جيد فقد زادنا وعياً ونضجاً.. فلا شيء يدفعنا نحو منازل القوة والثبات كالألم، ألا يستحق منا الشكر؟!

القلوب تألمت، النفوس عزتها أبت الاستمرار في هذا كثيراً، فقررت النسيان وتظن أنها فعلت، العقول تبلور الحدث في أفضل الصور، وكأنه لوحة جميلة في معرض حياتنا، كان لا بد من المرور بها والوقوف أمامها بعض الوقت، ليس بالكثير فقط للتأمل والاستمتاع، واستشعار أراد الفنان إيصاله خلالها لا ذنب للوحة أننا أطلنا الوقوف أمامها، تعلقنا بجمالها فمتنيناه لنا وما هي بملكنا ولا ستكون.. هكذا العقل حين يظهر حكمته البالغة القاسية، يحول ألمك إلى درس فقط، درس لا بد أن تعيه وتجربته، إلى لوحة للتأمل والاستمتاع وانتهى كل ما دون ذلك.

ويأتي الدور الأعظم والفاصل "الواقع" الصادم لكل الطموحات والأوهام ربما يأتيك كصدفة البطل في كل الأدوار هنا.

الصدفة التي أحببناها دوماً تجمعنا بأناس أحببناهم ولم تتح الحياة لنا تواصلاً يليق بحبنا لهم وحبهم لنا، وأناس لم تحرمنا الحياة من وصلهم، ولكن لم تهدنا لقاء، فتهديه لنا الصدفة وتسعدنا بصدق حين نعانقهم ونستشعر كما اشتقنا لهم وكم كنا بحاجة لتلك الصدفة التي أحيت مشاعرنا من جديد محافظةً على استمرار الود بيننا.

وهي أيضاً الصدفة التي تعيدك في الموقف الذي قاومت كثيراً لأجله، قاومت وقاومت وقاومت حتى أصابك وهم النسيان! صدفة وفجأة، ها هو قلبك يعيد نبضه دقاته كما هي كأن الزمن لم يتحرك ثانية، كأننا لم نمر بأيام بدت لنا كأعوام.

أيام قاومنا فيها، قاومنا لحظاتها لحظة بلحظة ذكرى بذكرى، شعرناها ثقيلة وبطيئة وقاسية فكيف لها ألا تمر كأعوام على قلوبنا؟!

وتهمس لك في أذنيك أيها القوي أو المدعي القوة البطل المغوار أمامهم المجاهد العظيم أمام نفسك، ومروراً بكل مراحل النسيان التي ظننت أنك بلغت منتهاها: "لا تهنأ بها كثيراً فأنت لم تنسَ أبداً"، تماماً كجميلة ناقوري حين تقول في قصيدتها: عذراً أيها النسيان
في كل مرة أردد بصوت تسمعه أذني "نسيت" وأعود لأصطدم بالذاكرة من جديد.
وكأنها تصر على تنحيتي من على عرش النسيان!

تصعقك الحقيقة ليس فقط لقسوتها وقسوة ما بعدها فأنت تدركه جيداً، لقد عشته لحظة بلحظة، ولكن أيضاً لإعلانها الصريح بفشلك وانهزامك وكأن كل المرات التي حاولت وقاومت فيها، كل اللحظات التي اشتد الصراع فيها بين قلبك وعقلك وأنت عالق بينهم ولسان حالك يقول: "إني أنهار بينكم.. فرفقاً"، تنظر إلى نفسك في حسرة كضائع يبحث عن طوق نجاة، كل هذا أمام عينيك الآن يذهب هباءً منثوراً! لعن الله تلك الصدفة.

تعود إلى نقطة الصفر وهنا تصارح ذاتك بأنك ربما لم تغادرها من البداية. فقط عشت طويلاً في حلم النسيان أو التناسي، لست واثقاً الآن أنسياناً كان أم تناسياً فصدقته، صدقته وانطلقت تحب واقعك الجديد في محاولة الرضا به (بدونهم) وبدون ذكراهم حتى وإن كانت كنسمات على قلوبنا في بعض الأحيان.

لكن الواقع لا يترك دوراً له أرسل إليك تلك الصدفة اللعينة سلبتك الحلم الجميل أو ربما الوهم المُصَدق! أظهرت لك مشاعرك عارية من كل الأغلفة التي طوّقتها بها ظناً منك أنك تقاوم فتنسى كالطالب حين يصدم مدرسه بعد محاولات الأخير العديدة لإفهامه وتعليمه "أني لم أعِ شيئاً مما قلت فكفى!"، تماماً هو ما يخبرك به قلبك الآن "لم يصلني شيء من محاولاتك هذه.. أنا كما أنا.. وهم ما زالوا هنا".

أيا قلب..
ألا يدرون كم نتألم بهم وبدونهم؟! ألا يشعرون بكم الأسئلة الذي يغمرنا ليل نهار فور لقائهم المشؤوم -أو المنتظر "لم نعد ندرك حقيقة"- فيحرمنا النوم والعيش والسكينة، ألا يؤلمهم أنهم يؤلمون غيرهم حتى إن عيشهم بات مريراً.

أهم يشعرون بألمنا؟؟ ربما بعض شعورهم بنا يخفف ثقل أوجاعنا منهم ويمنح قلوبنا بعض الرضا فهناك من يشعر بها.. أيا قلب مسكين لهذه الدرجة!
ألا يشتاقون.. ألا يفتقدون.. ألا وألا وألا، فهل من مجيب؟!
ألن يعودوا حتى؟
نشعر وكأننا كالطائر المخدوع بحبه القمح لا هو نال الحبة ولا هو تخلص مما وقع فيه!.. ألا فأخبرونا يا أحباب؟
الآن وبعد أن تركتمونا لقلوب ما زالت على العهد باقية، وإن غاب العهد وتخلى أصحابه، وعقول لا حول لها ولا قوة.. ماذا نحن فاعلون؟

أننتظر؟ وإن انقطع الوصل والأمل منكم معتذرين للنسيان مستأنسين بقصص الرائعين أصحاب الحب السرمدي المعطائين بلا مقابل، المتمسكين بكل ومضات الأمل غير مبالين كم يأخذ الخذلان منهم، مستمدين من صدق محبتهم وقوداً لعربة انتظار غير مرتبطة بزمان ولا مكان انتظاراً بلا حد، هكذا إلى حين ظهور المحبوب ومن دعائهم وصالاً كالشعراء حين يعشقون "قطعت وصال الحب فيما بيننا إلا وصال الحب بالدعوات".

غريب أليس كذلك أننا ورغم ما مررنا به ما زلنا نقبل بالانتظار؟! فماذا نفعل بشيء اقتحم قلوبنا لا ندري متى وكيف ولمَ أنتم؟ ولكن جعلكم أهل الفؤاد وراحته.

تطمئن قلوبنا قليلاً متسائلة ولمَ لا؟ ألم يجبر الله المنتظرين ويرحم قلوبهم؟ ألم يعد موسى لأمه وهيأ الأسباب فجعل من إبقاء موسى حياً قرة عين لزوجة فرعون فتعود إليه أمه كمرضعة رحمة من الله بقلب أصبح فارغاً؟! قد يرحم الله قلوبنا قريباً.

ألم يعد ليعقوب يوسف بعد أن انقطعت الأسباب والآمال وعوضه عن كل الفقد والألم؟! قد يعوضنا الله بوصل يوماً ما!

أنستسلم لقوبنا حين تجد دواءها في نهايات كهذه تهون آلامها، وإن اختلف الوجع والفراق، فضعف القلوب كمرآة الحب تماماً لا يرى إلا الجميل كلقاء المحبين وشفاء القلوب بعد طول عنائها.

أم نضع حداً لاعوجاج تلك النفس التي بلغت من الهوان والذل ما بلغت؟ وكيف لا وهي التي جعلت بدايتها اتباعاً واستسلاماً، اتبعت هواها حتى هوى بها فما العجب في حال نفس تاهت عن نهجها الذي خلقت للسير، وفقه لا وفق هواها، نهج قد يقسو عليها بعض الشيء، ولكن الخير كل الخير فيما تكرهه النفس، هكذا علمنا صحابة رسول الله رزقنا الله بعض من جهادهم العظيم لأنفسهم.

ألا أيها التائه على الطريق فلا سعدت بوصل يريح الفؤاد ولا شفيت بنسيان يداوي الجراح، ألا فانهض وأصلح فساد تلك المضغة "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"، فاستعن بالله وخالف هواك وسيمنحك الله قوة في البدن والقلب وسيهديك السبيل، فقد سئل أحد السلف: بمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى، فهكذا الأمور العظام يلزمها عزيمة ثابتة وجهاد عظيم وصبر لا ينفد.

حقاً.. اعتادت أسماعنا حتى قلوبنا أن بعض الحب لا ينسى مهما حاولت، قد "ينسى شخصه، ولكن ألمه يظل يراودك بين الحين والآخر كالمرض المزمن، لكن لا أجده ظلماً، وربك لا يظلم أحداً، لنا رب رحيم لا يغفل أبداً على قلوب عباده، عليم بذات الصدور، يطلع على محاولات عبد يؤلمه حنين قلبه وهوى نفسه، وما زال يحاول حفاظاً على تلك المضغة خوفاً على فسادها فيفسد أمانة الله له، على دعائه وتضرعه: "اللهم اشفني بشفائك وداوني بدوائك واغنني بفضلك عن سواك".. أليس هذا من السعي وهو القائل: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"، ومؤكداً سيمنحك الله جمال الوصول حين يرى منك صدق العزيمة وعلو الهمة، والصبر على النفس ومخالفة هواها "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، فلا تجزع أبداً ولا تستعجل الوصول ما دمت على الطريق الصحيح دون رجعة أو استسلام، وارفق بحالك إن ابتلاك الله بإحدى الصدف اللعينة التي تبليك بشريط ذكريات لا ينقطع وقتاً لا بأس به وتشعر بحنين قلبك من جديد "لينظر أصدقت أم كنت من الكاذبين".

فتماسك جيداً فكأنها عثرة في طريقك. ما من أحد يسلك طريقاً صعبة إلا وتعرقله بعض العثرات، ولكن العظماء هم من تدفعهم تلك العثرات تزيد خطواتهم ثباتاً وحدةً، فيكملوا المسير واثقين الخطى بقلوب جريئة ربما ما زالت جريحة، لكنها واثقة في شفاء الله، ما دامت قررت النسيان، مستعينة بالله علي هواها، وكما قال أحد الشيوخ لابن القيم: "آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه المسير قط.. ولتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امضِ على سيرك"، فامضِ على سيرك ولا تلتفت إلى ذكريات قد تسعدك لحظات، ولكنها تفسد طريق محاولاتك الشريف، فالملتفت لا يصل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد