فرنسا والإسلام.. هوية جديدة وأزمة متجددة

في المجتمع متعدد الثقافات تحتفظ كل حاضنة ثقافية بهويتها وعاداتها وتقاليدها ولغتها الأم، وتتقاسم في نفس الوقت المشتركات الروحية، وتحترم القيم الإنسانية التي تجمع الأفراد في إطار المواطنة ووحدة القانون.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/21 الساعة 09:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/21 الساعة 09:06 بتوقيت غرينتش

في المجتمع متعدد الثقافات تحتفظ كل حاضنة ثقافية بهويتها وعاداتها وتقاليدها ولغتها الأم، وتتقاسم في نفس الوقت المشتركات الروحية، وتحترم القيم الإنسانية التي تجمع الأفراد في إطار المواطنة ووحدة القانون.

هذا التقاسم لا يجب أن يؤدي إلى الاستلاب أو الحيرة الثقافية، وهو ما عبّرت عنه حكمة المهاتما غاندي: أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي، بكل حرية إن أمكن، لكني أرفض أن أنقلب من جراء رياحها العاتية؛ لأنه "عندما تفقد القيم قيمتها لا تبقى هناك أي مرجعية"، كما يذهب إلى ذلك الدكتور المهدي المنجرة في كتابه قيمة القيم.

ساق الباحثان الفرنسيان جون ميشال ومارينا جوليان في كتابهما "الاندماج بدون طابوهات" دراسة ميدانية قام بها معهد فرنسي عام 2001 على 522 من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و20 عاماً، صرحت غالبية الشباب من الجالية المسلمة بتنامي الإحساس بالرفض من قِبل المجتمع الفرنسي، (Jean-Michel Blier et Marina Julienne، 2002).

هذا الرفض اعتبره بعض الأوروبيين مقبولاً من الناحية القانونية؛ لأنه حسب برنار كودار "لا يجب الإبقاء إلا على العناصر الموضوعية بدقة. فالذي يرى أن الحلال يضيف نكهة لطبق الأكل، لا يستلزم بالضرورة إدخال هذا المفهوم في قاعدة عامة أوروبية"، (Bernard Godard، 2015).
يصر فقهاء الغرب على أنه إذا كانت العلمانية هي احتضان لجميع الأديان، واعتبار الممارسات التدينية في قالب يسمح بالحفاظ على الصفات الخاصة في احترام تام للفضاء العام المشترك، فإن الإسلام حسب مؤلف المسألة الإسلامية يحيل على مسار إسلامي، هذا المسار يترجم إلى شريعة تستمد قواعدها السلوكية من النصوص المقدسة؛ حيث يتم تكييف الفضاء وفق أسلوب جديد للحياة، يجعل من القانون الوضعي بعداً ثانوياً" (Bernard Godard، 2015).
هذه الخشية صرح بها أفرايم هرارة في مقاله الصادر بصحيفة "إسرائيل اليوم" عدد 16 سبتمبر/أيلول 2015، حيث اعتبر "من الناحية الإحصائية أن الكثير من المسلمين لا يرغبون في الثقافة المحلية، التي هي بنظرهم دونية وفاسدة وتكفر بالله (..) جيل الشباب يحافظ أكثر من الآباء على الفروض الإسلامية، ومواقفهم متطرفة أكثر. ثلث الطلاب المسلمين في بريطانيا يؤيدون إنشاء الخلافة الإسلامية التي تعتمد على الشريعة. و40 في المائة من المسلمين البريطانيين يريدون أن تكون الشريعة هي القانون في المناطق التي لهم فيها أغلبية. أما عن فرنسا، فلاحظ في عام 2013 أن الهجرة هي الموضوع العاشر الذي يقلق الفرنسيين، لكن في عام 2015، فقد أصبح الموضوع الثاني بعد البطالة".

وبالرجوع لمنظّري الإسلام السياسي، نجد في كتاباتهم ما يبرر هذا القلق الغربي من تنامي تشكل واقع إسلامي، خاصة أن أوروبا تعاني من أزمة في هوياتها التي ما زالت تبحث لها عن معالم للتشكل. ما زال زعماء التيار الإسلامي يتفاءلون بالهجرة لما تتحول هذه الأقليات يوماً ما إلى "قواعد مشعة فاعلة تبنى عليها الخلافة الثانية العالمية"، ويعتبرونها قاعدة من قواعد الإسلام الهوياتي، الذي سيغزو أوروبا حاملاً معه "مشروع إحياء الدين ومشروع الجهاد من أجل تحرير المسلمين ووحدتهم"، (ياسين، 2005).

وهذا أبو الحسن الندوي يقرر في أسباب انحطاط المسلمين "أن الحل الوحيد للأزمة العالمية هو تحول القيادة من أوروبا إلى العالم الإسلامي، الذي يجب أن يؤدي رسالته ليس بالمظاهر المدنية التي جادت بها أوروبا على العالم ويحذق لغاتها وتقليد أساليب الحياة وإنما بالشوق إلى الشهادة والحنين إلى الجنة والزهد في حطام الدنيا وتحمل الأذى في ذات الله".

يكفي أن نشير إلى أن رقم معاملات سوق بيع اللحم الحلال بلغت أكثر من 5.5 مليار يورو في عام 2013، وانتشرت مطاعم الفاست فود وتم الترويج لمشروع المالية الإسلامية من خلال تأسيس المجلس الفرنسي للمالية الفرنسية عام 2008.

وهكذا تم رسم صورة عن إسلام هوياتي يطرح طابعاً صراعياً وتنازعياً مع العلمانية الغربية. في بداية التسعينات ولد الإسلام كهوية، هوية طورت ثقافة خاصة، ورسمت طريقة في الحياة، وحددت معايير في نمط العيش، وأسست لإسلاميات وظيفية تستثير المشاعر وتصدر أحكام القيمة، وتبلور الأفكار والمعتقدات، وتضبط الاستعدادات السلوكية نحو البروز الديني من جهة، وتشكيل اتجاهات الرأي الإسلامي حول مواضيع الهجرة، وتقدير تفاعلات أوروبا مع قضايا العالمين العربي والإسلامي من جهة أخرى، "حيث الأخلاق ترتبط باللباس وبالغذاء أو بمواجهة حملات الخوف من الإسلام والدفاع عن فلسطين"، كما يصرح بذلك كبير مستشاري وزارة الداخلية الفرنسية برنار كودار، (Bernard Godard، 2015).

يذهب الكاتب مارك فيرو في كتابه المعنون بـ"صدمة الإسلام" إلى أنه بالرغم من تصريحات عميد مسجد باريس: "نحن فولتير الإسلام"، إلا أن الغرب ما زال مرتبكاً أمام سؤال الإسلام واندماج المسلمين في أوروبا، (Marc Ferro، 2002).

بداية هذا الارتباك أرجعته في مقال سابق إلى عام 1989، شكلت هذه اللحظة التاريخية عند السياسيين الفرنسيين ما يمكن أن نطلق عليه "صدمة الإسلام".

وأوضحت أن سنة 1989 كانت هي لحظة التقاء الوعي الفرنسي بالظاهرة الإسلامية، لحظة أثارت شروط الوعي عند فرنسا بشيء ما، إنه وعي بالإسلام كظاهرة، ووعي بالمسلمين (الآخر) كأجساد، أضفت عليهم التجربة الإسلامية في المجتمع الفرنسي معاني جديدة تتجاوز مفهوم المهاجر البسيط.

لا غرو أن بدأت فرنسا في نهاية القرن الماضي حماية للهوية العلمانية ترسم حدوداً تفصلها عن الإسلام كهوية، ولم تقبل باستيعاب عناصره الدخيلة على النسق الأيديولوجي للجمهورية الخامسة، وبدل فهم الوافد الجديد في سياق تواصلي إيجابي تشكلت نتيجة عوامل نفسية وأخرى ذات طبيعة تاريخية قطيعة عاطفية وأخرى معرفية، أنتجت "وضعيات تناوب رد الفعل".

وعوض تطوير "الشراكة الثقافية" حدثت "صدمة الظاهرة الإسلامية"، ثم نشطت بنية معرفية لا واعية في التصور الغربي، بنية تقاوم التقدير والانجذاب وبالتالي الاستيعاب الثقافي للعنصر الجديد، وتعزز في المقابل التبخيس والنفور والتحيز للنماذج الاختزالية التي تستبطن التمثلات الكامنة في المخيال الغربي تجاه الإسلام كظاهرة دينية، بحيث تغطي ثقافة "التشييء والتشكيل الجمالي والتقني"، كما يراها مالك بن نبي مساحة معتبرة لرؤية الأوروبي تجاه الإنسان والكون والحياة، وتؤطر سلوكه الاجتماعي والسياسي نحو الآخر بعيداً عن كل فكرة ميتافيزيقية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد