في اجتماعنا نصف الشهري لأعضاء نادي الكتاب والسينما في نابلس لمناقشة كتاب "فلسطين وطن للبيع"، تحدثت د. سائدة عفونة، المتخصصة في العلوم التربوية ورئيسة مركز التعلم الإلكتروني في جامعة النجاح الوطنية، حول التراجع الحاد في السلوك والقيم الأخلاقية التي تشهدها المجتمعات العربية.
ورغم أن هذه المسألة شائكة، وتحتاج إلى رصد متشعب الجوانب، فإن الوقوف على بعض المظاهر قد يسهم في توضيح ملامح هذه القضية. فربما نبالغ عندما نقول: تراجع أو انهيار في الأخلاق، وربما نقلل في بعض الأحيان من حجم هذه الظاهرة.
تسمع في كل مكان انتقادات عن سلوكيات اجتماعية، وبخاصة سلوكيات قطاعات من الشباب (ولا يعفي الأكبر سناً من ذلك)، سواء ما يتعلق بالنظافة والنظام والصدق في التعامل والانشغال في قضايا نعتبرها تافهة، مثل الأمور التي نملأ بها فراغنا من مسلسلات وأفلام وأغانٍ وجلسات المقاهي والرحلات الترفيهية المبالغ فيها والتي ينفق فيها البعض مبالغ طائلة، قد تفوق في بعض الأحيان قدراته المادية.
وبالطبع، فإن كثيراً من المنتقدين (بمن فيهم نحن) نمارس نفس الممارسات في كثير من الأحيان، ولكن طبيعة الإنسان هي أن ينظر إلى الأمور من زاويته، ولا يراها من زاوية الآخرين. ويبدو أن نقد الآخرين هو طبيعة الإنسان، دون أن ينظر إلى نفسه، ودون أن يرى أخطاءه.
ما يهمني هنا هو التركيز على مسألة البحث عن السعادة، وهذه أيضاً طبيعة إنسانية أن يبحث الإنسان عن المساحات المكانية والزمانية والاجتماعية والنفسية التي يعيش فيها سعيداً، وينسى هموم الحياة، ويستمتع بوقته لكي يشعر براحة نفسية تجعله يتميز عن الآخرين بتلك الدرجة من السعادة، ولا يعني كلامي هنا أنني أربط بين أساليب البحث عن السعادة والتراجع الأخلاقي، ولكن كلا الأمرين مرتبطان بالخواء الفكري والروحي، ويربطهما السعي نحو السراب.
وهنا يبرز السؤال المهم: أين نجد السعادة؟
دعونا نلقي نظرة سريعة على سلوكيات وأحاديث الناس حول المكان الذي يمكن أن نجد فيه السعادة.
المال ربما هو الأساس في تحقيق السعادة من وجهة نظر الناس؛ لأن بالمال نستطيع أن نفعل ما نشاء. ولا أظن أن هناك اثنين يختلفان على هذا الأمر. والمؤكد هو أن حصول الفرد على مال أكثر يشعره بالسعادة أكثر، ذلك أن السعادة تزداد عندما يستخدم هذا المال للقيام بأمور أخرى، مثل امتلاك جهاز موبايل جديد ومتطور، أو شراء شقة أو قطعة أرض، أو البدء بمشروع مربح، وهكذا.
في الوقت نفسه، نجد أن هناك ظاهرة تجتاح مجتمعاتنا (أو على الأقل المجتمع الفلسطيني والمجتمعات المحيطة به)، وهي الرغبة في قضاء إجازات في الخارج، سواء في شرم الشيخ، أو العقبة، أو إسطنبول، أو ماليزيا، وهي المناطق التي تروج لها الشركات السياحية لقضاء بضعة أيام بأسعار معقولة بالنسبة لمحدودي الدخل.
وبعض الناس يعتبرون أن السفر إلى الأردن مثلاً، أو إلى مناطق قريبة وغير مكلفة، تحقق لها ما يريد من سعادة في قضاء الإجازات وأوقات الفراغ.
ونجد أيضاً أن غير القادرين على تحمل نفقات السفر والإقامة في بلدان أخرى، يسعون إلى التردد على المطاعم والمقاهي وبعض المناطق القريبة لكي يقضوا أوقاتهم على ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، فضلاً عن "أرجيلة المعسل" التي انتشرت بين الشباب بشكل مذهل. وتعج صفحات الفيسبوك والإنستغرام بصور وخرائط وتحديد مواقع الترفيه التي يجلس فيها صاحب الحساب، وكأنه يريد أن يقول إنه حظي بما لم يحظَ به الآخرون.
طبعاً من حق كل إنسان أن يفكر بالسفر والرحلات السياحية وارتياد أماكن الترفيه، وأن يقوم بذلك.
لكن ما أريد قوله هو أن هناك جانباً نحتاج إلى التأمل فيه، وهو أن الإفراط في هذا الأمر يعني أن كثيراً من الناس يعيشون في "وهم" بأن المناطق الأخرى مثلاً (غير المنطقة التي يقطن فيها) هي أجمل، وفيها متعة أكثر، وتحقق له السعادة.
صحيح أن هناك مناطق في العالم العربي وفي الغرب جميلة جداً، وأن هناك شوارع واسعة ونظيفة وفيها أشجار، وهناك متنزهات وشواطئ ساحرة، وهناك ناطحات سحاب وأسواق تفوق الوصف، صحيح أن هناك مرافق تم إنشاؤها من قِبَل الحكومات لتكون مزاراً للسياح، وصحيح أن هناك مناطق أثرية رائعة، ولكن هل كل ذلك يكفي لتحقيق السعادة للإنسان؟
قد يقول قائل إن تغيير الجو، والانتقال إلى مناطق أخرى، مهم لتحسين نفسية الإنسان. وهذا صحيح بكل تأكيد. وهذا برأيي عامل يمكن أن يضاف إلى العامل الأساس، وهو السعادة الداخلية.
فالسعادة تبدأ من داخل الإنسان وليس من خارجه، فإذا كنا غير سعداء داخلياً، فإن الهروب إلى الأماكن الجميلة يمكن أن يصرفنا عن هموم الحياة ومشاكلها وإحساسنا بالإحباط أو التوتر لفترة مؤقتة، نعود بعدها إلى واقعنا الذي يسبب لنا الألم والتعاسة في بعض الأحيان.
لماذا لا ننظر إلى واقعنا بمنظار غير تقليدي؟ لماذا لا نشعر بجمال بلادنا، وعلاقاتنا الرائعة مع الآخرين؟
لفتت نظري الصحفية إيمان فقها، وهي صحفية فلسطينية مميزة بلا شك، عندما كتبت عبارة على الفيسبوك بعد عودتها من لبنان، بأنها شعرت كم هي فلسطين جميلة، وذلك من خلال لقائها مع الزملاء العرب القادمين من دول مختلفة، حيث كانوا يشيدون بفلسطين وأمنياتهم بزيارتها في يوم من الأيام.
إيمان عبرت بشكل جميل عن أن رغبة الشباب في السفر، وأحياناً في الهجرة، هي رغبة وهمية غير قائمة على معرفة بالبلاد الأخرى، وغير مبنية على إدراك لقيمة الوطن وجمال الوطن.
أنا شخصياً زرت دولاً كثيرة، عربية وأخرى غربية، وكنت أستمتع بكل شيء: بالجامعات، واللقاء بالناس، وبالشوارع. شعرت بسعادة غامرة عندما زرت مصر والأردن والسعودية، تماماً كما شعرت بسعادة عندما زرت هولندا والنمسا والنرويج وبريطانيا، وشعرت بسعادة غامرة في وطني فلسطين، رغم صعوبات الحياة فيها وقساوتها.
باختصار، لا يمكن لشيء أن يحقق لنا السعادة ما لم تكن السعادة موجودة في داخلنا. وهذا الاندفاع نحو الذهاب إلى مناطق جميلة، والسهر في مقاهٍ وفنادق رائعة، هي مجرد فقاعات لا تلبث أن تزول.
دعونا نشعر بجمال أوطاننا، وروعة الناس الذين نعيش معهم وبهم، ودعونا نغرس القناعة والرضا في نفوسنا، في هذا الزمن الذي تتلاطم فيه أمواج الحياة، وتدفعنا في كل اتجاه، وتزخر فضاءاته بإغراءات "جمالية" لا حدود لها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.