رسالة من لاجئ

تبدأُ قصتي منذ زمانٍ ليس ببعيد، زمان كنت أحيا فيه كما ينبغي أن يحيا البشر، الأهل والأصحاب بالجوار، البيتُ الآمن مُستقرّي، وبه وفرةٌ من مأكلٍ ومشربٍ وملبس، أدرُسُ أنا وإخوتي فارس ولِين، فارس أكبرُنا سيتخرج في المدرسة الثانوية هذا العام، يحلمُ أن يصبح مُهندساً معمارياً، ولين ذات الست سنوات تدرس في الصف الأول، أما أنا فكنتُ أوسطهم، بعد شهرٍ ونصف سأُتمّ الخامسة عشرة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/20 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/20 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش

تبدأُ قصتي منذ زمانٍ ليس ببعيد، زمان كنت أحيا فيه كما ينبغي أن يحيا البشر، الأهل والأصحاب بالجوار، البيتُ الآمن مُستقرّي، وبه وفرةٌ من مأكلٍ ومشربٍ وملبس، أدرُسُ أنا وإخوتي فارس ولِين، فارس أكبرُنا سيتخرج في المدرسة الثانوية هذا العام، يحلمُ أن يصبح مُهندساً معمارياً، ولين ذات الست سنوات تدرس في الصف الأول، أما أنا فكنتُ أوسطهم، بعد شهرٍ ونصف سأُتمّ الخامسة عشرة.

يعمل أبي مُعلّماً في المدرسة التي يدرس بها فارس، وأُمّي تعمل مُمرضة في المُستشفى الذي يبعُد عنّا ثلاثة كيلومترات. نفترق صباحاً كل يوم ولكن تجمعنا مائدة الطعام يومياً مع بعض السمر المملوء بالدفء. ويُشاركنا المائدة في نهاية كُل أسبوع عمّي المُتزوج حديثاً وزوجته اللذان يسكُنان في البيت المُجاور.

حياةٌ عادية كما يُقال، بسيطة يملؤها حُب العائلة والأمان، الأمان في مأوى يجمعُنا، وأبي. أمانٌ كنت أقدره -وعلى عكس المُعتاد- قبل أن أفقده.

حتى ذلك اليوم الذي لن أنسى، حين استيقظنا على أصوات قذائف وانفجارات وأضواء النيران في الأُفق.. ولكن ما لن يُنسى حقاً هو صرخات زوجة عمّي في البيت المُجاور، ليست صرخات رُعب، ولكنها كانت على وشك وضع مولودها الأول عمّار!

عرفنا من الجيران أن المُستشفى قد أصابه بعض القذائف ومات عددٌ من المرضى والأطباء، ويعملُ باقي الأطباء على إسعاف ما تبقى من المرضى وإيجاد مأوى بديل؛ لذا اضطررنا إلى اللجوء إلى إحدى الجارات كي تساعد زوجة عمّي على وضع مولودها على أضواء الشموع بعدما انقطعت الكهرباء عن المنطقة كاملةً.

مات مَن مات في تلك الليلةِ الكئيبة وظهر الحُزن والحداد على الوجوه لأشهرٍ قادمة، لم ينكشف الحزن بعد حتى جاءت الأيام بما هو أشدّ، انفجار في مدرسة الحيّ أسفر عن استشهاد العشرات من الطلبة والمُعلمين، تيقنّاً بعد ساعاتٍ من البحث المُضني بين الجُثث الممزقة مُشوهة الملامح أن أبي وأخي فارس من بينهم.

عرفت معنى الحُزن في ذلك اليوم كما لم أعرفه من قبل، حُزن يتسع لكل تلك الأرواح البريئة التي أُهدِرت ولفِراق أبي وأخي اللذين تركاني وحيداً كربٍّ للعائلة وأنا لم أحمل هماً ولا مسؤولية قط في حياتي وحياتهم! أمّا الآن أشعر أنّي شِبت، عرفت معنى اليُتم والفقد والوحدة ولأول مرة، وأُحاول أن أخفف عن أُمي وأختي الصغيرة تلك المعاني.

كان عمّي قد انتقل للعيش في الحيّ الذي يسكن به أهل زوجته طلباً للأمان هُناك خاصةً بعد ظروف مولد صغيرهما، ولكن من أين يأتي الأمان وقد صار الأمر مسألة وقت؟ فقد الأبوان صغيريهما بعدما قُتل أمام أعينهما اعتداءً من العدوّ بدون سببٍ واضح ولا رحمةٍ بادية إلا أنّهم شنّوا حملةً على الحيّ تهديداً لرجاله خاصةً بعدما أظهروا بعض المُقاومة في الأيام القليلة الفائتة، فقتلوا ونهبوا واعتقلوا من وجدوه أمامهم فيما اقتحموا من بُيوت.

الحرب.. كنت أقرأ عنها وأشاهدها في التلفاز فقط في صغري، أمّا وأنا في وسطها الآن فأستطيع أن أزيد عن الوصف الذي كان في ذهني عنها ألف وصف، ولكنّه وصف يُعاش فقط ويُشعَر به فقط، ولكن لا يُحكى.

اُعتُقِل عمّي مع مَن اعتُقلوا، وزوجته بعد رحيل رضيعها واعتقال زوجها فقد دخلت في نوبة من البكاء الهستيري فالصمت، تبعه حديث مُستمر عنهما ومعهما وكأنّهم أمامها، أخشى أن عقلها قد غادرها من الصدمة وأُشفق عليها كثيراً.. وعلينا.

ضاق بنا الحال واستحال العيش فقررنا الرحيل، إلى أين؟ لم نختَر حينها ولكن ما تبقّى معنا من مالٍ كان هو صاحب القرار والاختيار.

أحد المراكب الصغيرة سيعبُرُ بنا البحر ثم ننطلق إلى إحدى الدول الأوروبية في رحلة بحث عن أنفسنا والشمل الذي قد تفتت، هروبٌ كما كنت أظنّ، وأي خوفٍ هذا الذي كان يُحيط بنا وأيّ هروب من جريمةٍ لسنا سوى ضحاياها.. في ظلام الليل بدأنا رحلتنا بعدد كبير يملأ المركب حتى لا يكاد الواحد منّا أن يفرد رجليه من الزحام، ارتفعت الأمواج تضرب المركب حتى بدأ في الامتلاء بالماء والغرق.

مع طلوع الفجر كُنا في وسط البحر نُصارع الأمواج والموت معاً، كان عليّ أن أختار أحدهما لإنقاذه.. لم أختر أنا ولكن أُمي من قررت، تركتنا في عرض البحر مع كثيرٍ ممن كانوا على سطح المركب ممنّ لم يستطيعوا السباحة، والآخرون مشغولون في إنقاذ ذويهم أو أنفسهم!

بالكاد استطعت أن أجذبني ولين إلى الشاطئ بعد أن كادت تغرق منّي هي الأُخرى، ارتفعت حرارتها ثم أُصيبت بالحُمّى ونحنُ بلا مأوى وبلا مال وبلا طعام لا ندري أين نذهب بعد غرق مُعظم مَن كانوا معنا على سطح المركب وتيه الآخرين عنّا.

آه لو انتظرت لين أياماً قليلة.. وجدت عملاً في أحد المطاعم الصغيرة، وفي الليل أبيت مع بعض الأصدقاء ممن عانوا مثل معاناتي ننتقل بين جراج إلى كوبري إلى خيمةٍ تسترنا في ظلام وبرد الليل، أشعر أن لين ماتت بموت أمي، لم تحتمل المزيد ولم تتُق إلى النجاة بحياتها إن كانت تلك هي الحياة التي تنتظرها.

أكتُبُ إليك أيها العالم قصتي، أعلم أن هُناك الكثير منها، أعلم أنّك تُشاهد فتبكي حيناً وتصمت حيناً آخر، أعلم أنّك تُشاهد العديد من أهل بلدي والبلدان الأخرى وقد غرقوا في وسط البحر حين لم يستطيعوا الهجرة بوسيلةٍ أخرى أو يعيشوا في المُخيمات لاجئين.

أكتُبُ إليك وفيما تقرأ قصتي يكون مئات في طريقهم إلى الحدود مُحاولين الفرار من الجحيم في بلادهم، رُبما إلى جحيمٍ أشد وطأةً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد