ربما تشعر سمر عبد الخالق، المصرية المقيمة في تركيا منذ عامين، بقدر من الراحة مع بداية العام الدراسي الجديد، بعد أن سمعت الأخبار من أصدقائها عن تغييرات اعتمدتها الحكومة التركية في مناهج المراحل التعليمية المختلفة هذا العام.
ربة المنزل ذات الـ29 عاماً، تذكرت بقلقٍ كثرة تناول حياة مؤسس الدولة التركية، مصطفى كمال أتاتورك، في المناهج الدراسية التي ستدرسها ابنتها مريم، حيث بدأت صفها الدراسي الأول في إحدى المدارس الحكومية.
لكن الآن -بحسب سمر- ستقلُّ الإشارات إلى أتاتورك في المناهج الدراسية، كما ستُحذَف مفاهيم تطوُّرية، مثل نظرية الانتخاب الطبيعي، جنباً إلى جنبٍ مع أي ذكرٍ لداروين، عالِم الطبيعة البريطاني الذي تُعتَبَر نظريته في "التطور الارتقاء" عماداً أساسياً لحصص العلوم في مدارس العالم.
سمر، كانت مترددة في البداية حول فكرة إدخال ابنتها في مدرسة تركية حكومية؛ لكون نظم التعليم علمانية و"بعيدة عن الأسس الإسلامية" التي اعتادتها.
لكنها الآن تشعر بالسعادة بحكم طبيعة ثقافتها المحافظة؛ لأن تغيير المناهج الجديدة يتضمن أيضاً "مبادئ الدين الإسلامي مثل الصلاة والصوم والزكاة".
وتعيش في تركيا جالية عربية كبيرة تصل إلى 3.65 مليون شخص، طبقًا لأحدث تقرير صادر من معهد الإحصاء التركي في فبراير/ شباط 2017.
تأتي هذه التغييرات بالمناهج في وقتٍ مشحونٍ بالتوتُّر في العلاقات بين تركيا وحلفائها الغربيين، في أعقابِ محاولة الانقلاب الفاشلة العام الماضي، (2016)، وعدم تسليم أميركا وأوروبا بعض المطلوبين المتهمين بقيادة الانقلاب، وهو ما أغضب أنقرة.
حتى إن المناهج الجديدة لا يتراجع فيها تدريس دور أتاتورك فقط؛ بل بدأت أيضاً بالتركيز أكثر على دور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في إفشال الانقلاب العسكري الذي كان يمكن أن يعيد البلاد من جديد إلى دوامة الانقلابات العسكرية التي انتهت في بداية التسعينيات، والتي أدت إلى تراجع البلاد اقتصادياً وسط اضطرابات سياسية لا تنتهي.
إلا أن الارتياح الذي تشعر به سمر هو ليس ذاته ما يشعر به العديد من الأتراك، الذين دأبوا طوال قرن كامل تقريباً، على النظر إلى أتاتورك وقِيمه العلمانية بشيء من التقديس. ويرى هؤلاء -وهم مسلمون بطبيعة الحال- أن تعديل أكثر من 170 موضوعاً في المناهج المدرسية بواسطة السلطات التركية يُمثِّل زعزعة مباشرة لتراث العلمانية الهشّ بالأصل، طبقاً لما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز.
وقال سونر جاغبتاي، مدير برنامج البحث التركي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إن تغيير المناهج "ليس أقل من ثورةٍ في التعليم العام بتأكيد أن رؤيةً دينيةً معينة للعالم هي السائدة".
ولطالما نظر المحافظون في تركيا إلى أنهم يتعرضون للتهميش والإقصاء في ظل الجمهورية العلمانية التركية الحديثة، حتى إن العديدين منهم -خاصة من المحجبات- كن يجدن صعوبة فائقة في دخول الجامعات أو المحاكم أو تولي مناصب ووظائف معينة؛ بسبب زيهم المحافظ.
حذف نظرية التطور
لكن حذف نظرية "التطور" من المناهج الدراسية لم يكن أمراً سهلاً، بحسب ما ذكرته صحيفة الغارديان البريطانية، فقد أثير الكثير من الجدل حولها، حتى إن السلطات اكتفت بحذفها في المراحل الدراسية الأولى، بينما أبقت على تدريسها بالمراحل الدراسية المتقدمة في الجامعات.
ويرى مؤيدو أردوغان أن الجدالات حول تدريس نظرية التطوُّر ليست حالة خاصة بتركيا، فقد نشب الخلاف حولها في بلدانٍ أخرى عديدة، بما فيها الولايات المتحدة.
وتلقى نظرية التطوُّر رفضاً من المتدينين المتلزمين -مسيحيين ومسلمين- الذين يرون أن الفضل في خلق الكوكب وما عليه من كائنات يرجع إلى الله تعالى. ويرفض الكثير من المسلمين المُحافظين في تركيا التطوُّر باعتباره نظريةً طائشة وغير مُثبَتة.
عصمت يلماز، وزير التعليم التركي، ذهب إلى أبعد من ذلك، واعتبر أن التعديلات في المناهج التركية ضرورية، مشدداً على التعليم المبنيّ على القيم. وأصرَّ على أن علم الأحياء التطوُّري صعبٌ للغاية على طلاب المدارس الثانوية ليفهموه، وسيُدرَّس في المرحلةِ الجامعية.
الجهاد بمفهوم جديد
تعديل المناهج الدراسية طال أيضاً قائمة أعداء تركيا. فإضافة إلى حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا كجماعة إرهابية منذ وقتٍ طويل، باتت القائمة تضم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وفتح الله غولن الذي تتهمه السلطات التركية بتدبير الانقلاب الفاشل.
ليس ذلك فحسب؛ بل إن المنهاج الجديد يعزز مفهوم "الجهاد" باعتباره حباً للوطن ومفهوماً روحانياً تبنَّاه المُتطرِّفون فارتبط بالإرهاب على نحوٍ خاطئ، وأن الجماعات المسلمة التقدمية استخدمت تفسيراتٍ أكثر سلمية لمفهوم الجهاد على مدى قرون.
لكن المعارضين يرفضون وجهة النظر تلك، قائلين إنه بينما تحمل كلمة "جهاد" معاني متعددةً في اللغة العربية، فإنها تُتَرجَم في اللغة التركية إلى معنى العنف والكفاح السياسي.
ويجادلون أيضاً بأن إعادة استخدام كلمة "جهاد" بشكلٍ مختلف في تركيا تعد عمليةً محفوفةً بالمخاطر؛ نظراً إلى معناها الضمني في المنطقة المحيطة، حيث وُظِّفَت الكلمة لتحقيق أغراضٍ عنيفة.
ورغم أن صحيفة نيويورك تايمز ذكرت في تقريرها -نقلاً عن تقرير لمؤسسة "Impact-se"، وهي مؤسسةٌ بحثية مقرها مدينة القدس لجأت إلى دراسة وتحليل 117 كتاباً مدرسياً في تركيا- أن المنهج الدراسي التركي يُعلِّم حقوق الإنسان، وكان منفتحاً على أفكار داروين، والمساواة بين الجنسين، وحماية البيئة، والتعاطف مع مرضى الإيدز، والانفتاح على أساليب الحياة المختلفة، إلا أنها رأت في التغييرات الجديدة بأن تركيا "تُغيِّر توجُّهها، ولم تعد دولةً تُحسب على الغرب بحكم طبيعتها".
لكن سمر لا تهتم بكل هذا الجدل الدائر داخل البلاد حول علمانية الدولة أو إسلاميتها، فكل ما يهمها أن يتعلم أبناؤها أركان الإسلام مثل الصلاة والصوم والحج، فهذا يمنحها "قدراً من الاطمئنان في بلد أرغب في الإقامة به طويلاً".