العرب يعانون استعصاء فكرياً مزمناً “1”

إننا نؤكد أن النظر إلى الماضي يجب أن يتم برؤية موضوعية شاملة، ذات مصداقية تتكئ على الحقائق، ذلك لأن دراسة الماضي دراسة مبنية على أسس علمية هي ضرورة أخلاقية وحضارية ومعرفية لتسليط الضوء على الهوية الوطنية والقومية، واستخدام هذا المنهج في قراءة الماضي يجعلنا لا نسقط في هوة انتقاء ما يحلو لنا من التاريخ، وإهمال الصفحات الأخرى التي لا تنسجم مع أمجادنا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/20 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/20 الساعة 03:27 بتوقيت غرينتش

إن أية نظرة موضوعية للواقع العربي الراهن تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمة العربية الواحدة ذات الثقافة واللغة والهوية والجغرافيا الواحدة وذات المصير المشترك، تتصارع الآن في داخلها قوى وجماعات وكيانات، وتتمزق وحدة هذه الأمة على المستوى القومي وعلى الصعيد الوطني، ويتم تهجير ملايين من المواطنين ومنهم الكثير من الكفاءات والعقول الخبيرة، وتتعمق في المجتمع الواحد الانقسامات الإثنية والطائفية أو حتى المناطقية في بعض الدول.

إن واقع الحال العربي يشير إلى أن هذه الأمة تتنازع فيها هويات جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة، بعضها هويات إقليمية أو طائفية أو دينية أو عرقية، ويبدو أن الهدف هو تجريد هذه الأمة من هويتها وشخصيتها العربية والإسلامية.

في ظل هذا الحال من التفتيت والتقسيم الذي تعاني منه المنطقة العربية، والذي لا يبشر بالخير أبداً ويشير إلى أن المنطقة مقبلة على صراعات أكثر دموية، نقول إنه في ظل هذا الوضع بدأت تتعالى أصوات بعض المفكرين بضرورة العودة إلى دروس وعِبر الماضي؛ لنستلهم منها ما يُعيننا على مواجهة معضلات الحاضر، ذاك الماضي الذي كان فيه العرب والمسلمون أصحاب مكانة ونفوذ، وأصحاب فضل في تطور ونشر المعارف.

ولكن ما الذي يجعل بعض المفكرين العرب أسرى الماضي بكل ما فيه، وهم الذين يدعون إلى دراسة الماضي ومحاكاته، والتواصل الواعي مع أفكار وقيم الماضي، والتمسك بالفلسفة الاجتماعية السياسية التي شكلت دعائم هذا الماضي الجميل؟!

ويرى هؤلاء أنه حين تتعرض الأمة إلى تقويض هذه الدعائم -كما يحصل الآن- فإن المهمة الأولى للمجتمع هي العمل على إعادة إحياء الماضي وإعادة الاعتبار إليه ليس بوصفه تراثاً ساكناً، بل باعتباره أداة عمل عصرية ورافعة حضارية لإعادة تشكيل الحاضر.

بينما يرى آخرون أن أصحاب هذا الفكر الماضوي يبالغون كثيراً في إظهار بطولات العرب وإنجازاتهم في الأزمان الغابرة، وأن الماضي الذي يراد إحياؤه ليس إلا تاريخاً يقوم على التضخيم والاختلاق، وهم يرون أن العودة إلى الماضي هي شبيهة بالدعوة إلى الخروج من التاريخ، ورفض الواقع ومحاولة الهروب إلى الأمام، وهو بمثابة إدارة الظهر عن الواقع بكل تحدياته، والسعي إلى الخلاص عبر العودة إلى الماضي لعجز هذه القوى والفكر الذي يتمثلونه في التصدي للمهام التي تولدت من الحياة المعاصرة، وعدم مقدرتهم على الإجابة عن الأسئلة الراهنة التي تطرحها مفاعيل الحاضر بكافة تعقيداته وتشابكاته.

إننا نؤكد أن النظر إلى الماضي يجب أن يتم برؤية موضوعية شاملة، ذات مصداقية تتكئ على الحقائق، ذلك لأن دراسة الماضي دراسة مبنية على أسس علمية هي ضرورة أخلاقية وحضارية ومعرفية لتسليط الضوء على الهوية الوطنية والقومية، واستخدام هذا المنهج في قراءة الماضي يجعلنا لا نسقط في هوة انتقاء ما يحلو لنا من التاريخ، وإهمال الصفحات الأخرى التي لا تنسجم مع أمجادنا.

لكن قبل الاستطراد في مناقشة الموضوع، دعونا نلقي نظرة تاريخية سريعة على هذا الماضي لجعله في خلفية المشهد أثناء تسليط الضوء على أهمية وقف تفتيت البلاد العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية.

لا شك في أن المنطقة العربية قد عانت لفترات طويلة وعصيبة من نير الاحتلال الأجنبي قبل ظهور الإسلام. فقد عانى سكان هذه المنطقة من ويلات الإمبراطورية الفارسية الوثنية، والإمبراطورية الرومانية المسيحية الغربية، ولم تستثنِ هذه السياسة التي اعتمدت البطش والظلم من قِبل هذه الإمبراطوريات جميع سكان المنطقة، لم تستثنِ المسيحيين العرب الذين ذاقوا الأمرّين من سياسة التنكيل والتعذيب؛ لذلك لم يكن غريباً على سبيل المثال أن تنضم القبائل المسيحية العربية إلى جيوش الفتح الإسلامي ضد الفرس والرومان، وكذلك في فتح إسبانيا وتأسيس دولة الأندلس.

وبهذه الفتوحات الإسلامية تحرر العرب من قبضة المحتل وتم طرد الغزاة من الأرض العربية، وكذلك تم توحيد السلطة السياسية وأيضاً توحيد الأمة التي تقيم فوق هذه البقعة الجغرافية، وتم صهر جميع الإثنيات والأقليات في الحضارة العربية.

فخلال مراحل التطور التاريخي للدولة الإسلامية، تبلورت هذه الكتلة البشرية المعروفة باسم الأمة العربية، وتجانست هذه المجموعة قومياً وتآلفت وأصبح لها تاريخ واحد مشترك ولغة واحدة، الأمر الذي أثرى تراثها الثقافي والحضاري المتنوع، وساهم في إنتاج ما يسمى تكوين الشخصية العربية.

ولأن هذه المجموعة تسكن في بقعة جغرافية واحدة واسعة وممتدة، كان لا بد من ظهور مصالح اقتصادية مشتركة، وفرض ضرورة وجود أمن قومي عربي واحد، وهذه من الأسباب الرئيسية التي أنجبت فيما بعد الشعور بالعروبة والانتماء لهذه الأمة وأظهرت النزوع نحو الوحدة عند غالبية سكان المنطقة.

ولقد ساهمت الحضارة العربية والإسلامية مساهمة فعالة في إغناء الحضارة الإنسانية وتطورها في مجالات العلوم والفنون والآداب والدراسات المختلفة.

وفي الوقت الذي وصلت فيه الأندلس في عهد حكم المسلمين إلى ذروة مجدها وعظمتها، وأصبحت قِبلة للقاصدين لطلب العلم والمعرفة، كانت أوروبا غارقةً في جهل مدقع وتخلّف حضاري.

ووصل العطاء الفكري للعرب والمسلمين إلى ذروته في القرنين الثامن والتاسع الهجري، وبرز الكثير من العلماء العرب في الطب والجغرافيا والفكر والرياضيات والفلسفة وغيرها الذين ما زالت مؤلفاتهم تدرس في جامعات العالم.

لكن هل نحن حقاً نريد إحياء الماضي؟ الجواب بالطبع لا نريد، فإن الماضي عبارة عن جملة من العناصر تدخل وتسهم مساهمة مباشرة في تكويننا الفكري والثقافي وفي العناصر التي تحدد شخصيتنا، الماضي شيء يدخل في الشعور واللاشعور لكل فرد، كخبرة متوارثة وليس كواقع جامد يمكن استعادته بمجرد استدعائه، إن الماضي هو تاريخ الوجود البشري كصيرورة تاريخية جماعية ممتدة في الزمان.

وأهمية قراءة الماضي في هذا السياق أنها تساعدنا على وضع الحاضر في مكانه الصحيح. ذلك أن التاريخ يهتم بالأسباب، ومن ثم فإنه يوسع من مدى إدراكنا للعملية التاريخية، وإذا قرأناه بوعي، نظرنا إلى المشكلات التي تعكر صفو الحاضر برؤية أكثر تنظيماً؛ لأن معرفة كيفية عمل المجتمع في الماضي- من خلال قراءة التاريخ- قد تفتح عيوننا على الإمكانات والبدائل الكامنة في الحاضر، وليس معنى هذا أن الماضي يمكن أن يجعلنا نتنبأ بالمستقبل بشكل ساذج وبسيط مثل قراءة الطالع، وبالتالي لا يمكن أن يرشد الناس عن الكيفية التي يجب أن يتصرفوا بها في حاضرهم، ولكنه قد يساعدهم على أن يتجنبوا تكرار أخطائهم.

ويمكن لمجتمع اليوم أن يأخذ من ماضيه شيئاً ربما يفيد في توجيهه وإرشاده؛ لأن التاريخ يحمل في داخله نوعاً من الإنذار المبكر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه أو يحسنون قراءته.

وبالتالي فإن أية عملية استحضار الماضي بشكل ميكانيكي هو أشبه بوضع العربة أمام الحصان، ويصبح قراراً إرادوياً بالثبات وعدم رؤية وقائع الحياة المعاصرة المتجددة والمتطورة بشكل متسارع بحيث تكاد تفلت من بين أيدينا ولا نستطيع الإمساك بعناصرها وحلقاتها المهمة، لهذه الأسباب فإن اتصالنا وتواصلنا مع تاريخنا يجب بالضرورة أن يتم من خلال هذه الوقائع للحياة المعاصرة، لا أن يتم النظر إلى حاضرنا بأدوات ومفاهيم الماضي.

إن مقدرة الشعوب على التواصل والاتصال مع الحداثة ومع منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة وكافة مفردات الديمقراطية والتطور العلمي وتوفير مناخ الإبداع وعدم المس بحقوق الإنسان الأساسية، هي التي تجعل التاريخ في تواصل وتماس مع حياتنا الراهنة، ونحن كشعوب عربية ما زلنا نكافح لبناء وطن عربي موحد سليم ومعافى وقادر على المساهمة بفاعلية في صنع الحضارة الإنسانية الحديثة دون تكييفات خاصة لمذهب أو لطائفة أو لعِرق فيه الأفضلية عن الآخرين، وذلك من خلال التواصل والتعاون مع كافة التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية العالمية، مع أهمية التأكيد على أهمية الهوية القومية العربية الواحدة الموحدة في مواجهة الأطماع التي تحيط بجسد الأمة من كل صوب، ولمنع أية اختراقات تؤدي إلى تفكيك هذه الهوية وتجزئة المنطقة تمهيداً لتدمير شخصيتنا الاعتبارية.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يدخل العرب إلى الألفية الثالثة بأسئلة كبيرة ومهمة، أسئلة فلسفية وجودية علمية وتاريخية ومصيرية ما زالت تثقل كاهلنا من القرن الماضي، وهي أسئلة تطرح في الحقيقة في جو من التشاؤم والنظرة السوداوية.

قد تمت خلال الربع الأخير من القرن الماضي عدة مراجعات على المستويين الفلسفي والعلمي لكثير من النظريات التي كانت تساعد الإنسان على فهم أفضل للعالم وكافة الظواهر والعناصر التي تساهم في صيرورة الحضارة المعاصرة، والكثير من هذه المراجعات توصلت إلى استخلاصات مهمة اتسمت بنظرة سوداوية تشير إلى أنه لأول مرة في التاريخ تقف البشرية على شفا حفرة من التدمير الذاتي، وأن استعصاءات هذه الحضارة قد تقودها إلى حتفها.

ولكن حين لا يستطيع واقعنا الراهن أن يقدم أجوبة عن الأسئلة المهمة التي يطرحها الفكر الإنساني، ويكون هذا الواقع عاجزاً عن فهم الكثير من الظواهر، فإننا لا شك نكون أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما أن الأسئلة التي على هذا الواقع هي في الحقيقة أسئلة زائفة غير حقيقية وغير صائبة وغير منطقية، وبالتالي فإن الأسئلة الزائفة غير الحقيقية لا جواب واقعي عنها، أو أن هذا الواقع الذي نعيشه هو واقع راكد وعناصره ثابتة راسخة إلى الحد الذي تحجر فيه هذا الواقع، وأصبح لا يستطيع الإجابة عن أسئلتنا.

في الحقيقة فإن الفكر العربي في مأزق معقد مركب لم يستطِع تجاوزه منذ أكثر من قرن ونيف من الزمان، إذ ما زالت الأسئلة التي طرحها هذا الفكر هي نفسها، دون أن يستطيع تقديم إجابات علمية عليها، وما زال قادة الفكر العربي وسدنة تشكيل الرأي العام مشحونين بالأسئلة دون توافر إمكانية تقديم الأجوبة الشافية، الأمر الذي يسهم في تكريس حالة الضياع والتوهان للمواطن العربي، وهو وضع شبيه بخروج المريض من عيادة الطبيب بتشخيص دون علاج.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد