"خذ شطيرة البيض هذه مني بسرعة، فالتلفزيون المصري يناديني"، هذا ما يفعله المحلل المصري حاتم الجمسي عندما يتصل به التلفزيون المصري، أو إحدى القنوات المصرية الأخرى وهو منهمك في إعداد الشطائر في مطعمه بالولايات المتحدة.
بسرعة كأن لديه شخصيتين يتحرك المحلل الشهير لغرفة في المطعم، حوَّلها لغرفة أخبار متقنة مملوءة بالخرائط، لا يمكن لأي مشاهد أو حتى إعلامي محترف اكتشاف أنها غرفة "غسيل الصحون".
لا يمكن لوم حاتم الجمسي، المحلل الذي يظهر على العديد من القنوات المصرية، على أنه في الأصل صاحب مطعم وطباخ ماهر، ولكن ما يجب التوقف عنده كيف، ولماذا أخفى هذا الأمر، ليس عن المشاهدين فقط، بل عن الإعلاميين الذين يعمل معهم، وكيف تكشَّف الأمر؟
من يومٍ لآخر، يتصل حاتم الجمسي بجمهورٍ يتابع قنوات الأخبار يبعد آلاف الكيلومترات عنه، ويدلي بآرائه عن السياسة الأميركية في بثٍّ مباشر من نيويورك يُذاع على التلفزيون المصري.
عندما ينتهي البث، يترك سماعتي أذنيه، ويفتح باب الاستوديو الذي أعده بنفسه، ويعود إلى وظيفته النهارية، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية التي كشفت قضية الرجل، التي لاقت اهتماماً كبيراً في مصر موطنه.
قال للزبون في صباح يومٍ قريب: "هل تريد إضافة الكاتشاب على شطيرتك؟"، ولغيره: "كاتشب إضافي كالمعتاد؟".
يملك الجمسي متجر أطعمة بسيطة يُدعى لوتس في حي ريدجوود بمنطقة كوينز في نيويورك، وهو مكان معروف بشطائره اللذيذة، واختياراته المتعددة من البيرة المصنعة يدوياً، ومالكه الكريم الودود.
لكنَّ قلةً من زبائنه (وغالباً لا أحد من مشاهديه في مصر) يعرفون أنَّ الرجل الذي يُعِد شطائر البيض، ويُجري حديثاً قصيراً مع زبائنه من وراء منضدته، هو الرجل نفسه الذي يظهر على البرامج التلفزيونية الإخبارية المصرية الشعبية، ويتحدث مطولاً في مواضيع عدة، بدايةً من سياسة الهجرة في الولايات المتحدة الأميركية إلى أزمة كوريا الشمالية.
ولا يعرف الكثيرون أيضاً أنَّ الاستوديو التلفزيوني الخاص به هو في الواقع غرفة متعددة الوظائف، خلف رف رقائق البطاطا في مطعمه.
هكذا ظهرت قصته للعلن
وحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإنه بعد أن تحدث مراسلٌ مع الجمسي عن حياته المهنية المزدوجة، قرر أن يشارك الجمهور قصته للمرة الأولى.
وقال الجمسي (48 عاماً)، وهو يحتسي القهوة في متجره الصغير بشارع سينيكا في صباحٍ قريب: "ما أخافه بشأن انكشاف حقيقتي هو أنَّهم قد يقولون إنَّه مجرد بائع شطائر، كيف يتحدث عن هذه القضايا الكبيرة؟ لكنَّني أيضاً رجلٌ متعلم، وكوني بائعاً للشطائر هو أمرٌ لا يخالف القانون".
وأضاف: "انظروا إلى ما أقوله، فله مصداقية كبيرة".
كيف بدأ الأمر؟
بدأ الجمسي في مهنة البث المباشر العام الماضي 2016، وذلك بعد وقتٍ قصير من كتابة مقال رأي لمؤسسة إخبارية مصرية توقَّع فيه فوز دونالد ترامب، في نوفمبر/تشرين الثاني، في الوقت الذي كانت فيه مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون لا تزال متفوقةً على ترامب، بما يقرب من 20 نقطة في استطلاعات الرأي.
وكان قد كتب مقالات رأي عديدة على مرِّ السنين، معظمها كهواية.
إلا أنَّ المقال الذي تنبأ بانتصار ترامب، لفت انتباه شخصٍ ما في قناة نايل تي في المصرية الحكومية، الذي كان يتطلع إلى إجراء حوارٍ مع مصري أميركي حول الانتخابات.
سار الحوار بصورةٍ جيدة، وبدأ مقدمو البرامج يتهافتون على الجمسي من بعدها، وكلٌّ منهم يحاول توسيع شهرته الصحفية في بلدٍ معروف باحتجاز الصحفيين.
وقال محمد المحمدي، وهو منتج لقناة أون تي في لايف الفضائية المصرية، في مقابلةٍ أجراها من مكتبه بالقاهرة: "إنَّه مثقف للغاية، وعلى علم بالحياة والأخبار السياسية في أميركا. وبإمكانه التحدث عن مجموعةٍ متنوعة من الموضوعات السياسية، بدايةً من منشورات الرئيس الأميركي على تويتر، إلى الأعاصير، وهو مستعدٌ تماماً لكل بث".
وتابع المحمدي: "إذا قلتُ إنَّنى بحاجة إلى شيء محدد، يقول لي: لا، انتظر، يتعين علي التحقُّق من الأمر. لو كان يجهل شيئاً ما، يعترف بذلك".
البيتزا التي غيّرت حياته!
انتقل الجمسي الذي كان يعمل مدرساً للغة الإنكليزية من محافظة المنوفية في شمالي مصر إلى بروكلين في عام 1999، لدراسة تعليم اللغة الإنكليزية كلغةٍ ثانية في جامعة سانت جونز. وليدعم نفسه مادياً، تولى وظيفة مُعِد أطعمة بسيطة بأحد المتاجر الكبيرة في جنوب مانهاتن.
كان يعمل هناك في عام 2003 عندما دخلت المتجر امرأة، وهي طبيبة نفسية من شيكاغو كانت على وشك أن تعود إلى ديارها في ذلك الشهر، وطلبت شطيرة.
وروى الجمسي ما حدث، قائلاً إنَّها طلبت: "خضراوات إضافية". وبعد ذلك ذهبا لمحل البيتزا المجاور، وقال: "كنتُ أعرف أنَّني لو تناولت البيتزا معها مرةً ثانية، فسوف نتزوج".
وتناولا البيتزا مرةً ثانية بالفعل. ولينيت غرين والجمسي متزوجان منذ 13 عاماً، ولديهما طفلان، فايزة (12 عاماً)، وعمر (8 أعوام).
اشترى الجمسي المتجر القائم في كوينز قبل نحو أربع سنوات، ووسط قوالب الجبن واللحوم الباردة، بدأ في تكوين رؤية خاصة به عن الروح الأميركية.
كيف ساعدته الساندويتشات على فهم السياسة الأميركية؟!
وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية، ساعدت تحركاته وتعاملاته مع الوافدين الجدد في ريدجوود، الذين لقبهم بـ"الهيبسترز" في صقل فهمه لاستياء جيل الألفية من السياسة الأميركية، وغضبه من الطريقة التي عامل بها الحزب الديمقراطي السيناتور الأميركي بيرني ساندرز، واشمئزازه من اعتزام الآباء من الطبقة المتوسطة خارج نيويورك التصويت لترامب.
وقال: "معظم الزبائن ينفسون عما يشعرون به لصاحب المطعم. وفي الواقع، أستمعُ إليهم".
وفي صباحٍ قريب، وقف زبونان بجانب رفٍّ من حزم الرامن لمدة ساعة، وتناقشا بحرارة في السياسة. ودفع أحد الزبائن، يُدعَى كالفن جيرولد، ثمن قهوته الصباحية، وخرج غاضباً تاركاً وراءه نقاشاً عن كراهية النساء المترسخة، ليعود بعد دقائق قليلة ليشارك فكرةً أخرى مع الجمسي، المعروف لدى زبائنه بتيمي.
وقال جيرولد (41 عاماً)، وهو مهندس شبكات: "لا أعتقد أنَّ حقيقة أنَّه يعد الشطائر تحط من شأنه. فَكِّر في جميع الناس الذين يجتمعون في متجرك الصغير. أنت تقابل أناساً من مختلف الخلفيات الحياتية، ويتبنون مختلف الآراء السياسية، هم أشخاص من مختلف الأطياف".
وأضاف أنَّ "شطائر لحم الخنزير المقدد، والبيض، والجبن، لذيذة للغاية".
وفي صباح الخميس، دقَّ هاتف الجمسي، فإذا بأحد منتجي قناة أون تي في لايف، التي تعتبر نفسها شبكةً تلفزيونية مصرية مستقلة سياسياً، يريد أن يعرف ما إن كان الجمسي متاحاً.
ليبدأ، الجمسي كالأبطال الخارقين المتخفين، في خلع قفازاته البلاستيكية وغطاء رأسه الذي يُبقي شعره منمقاً، ومئزره الذي يحمي قميصه من زيت المقلاة.
ثم يرتدي سترة بذلته وسماعات أذنيه، ويذهب إلى الاستوديو الخلفي بمطعمه، ماراً بقطة المطعم الأليفة الجالسة فوق أحد أكياس القمامة.
ويقول الجمسي: "أحياناً أكون منشغلاً بتحضير طلب أحد الزبائن، ثم اضطر للقفز سريعاً. واحد، اثنان، ثلاثة، ثم يبدأ البث الحي، هكذا يكون الأمر"، قالها مقلداً الصوت الجهور لمقدمي الأخبار، وتابع: "سيد جمسي، هل سنذهب للحرب مع كوريا الشمالية؟".
خلفية أكاديمية، وهكذا كان يرد على من يسأله عن وظيفته
زيَّن الجمسي جدران الغرفة التي حوَّلها إلى استوديو بخرائط الولايات المتحدة الأميركية، مضفياً خلفيةً توحي بطابع أكاديمي على ظهوره التلفزيوني.
وعندما يسأله مقدمو الأخبار عمَّا يفعل لكسب العيش، يراوغ الجمسي ليتجنب الإجابة.
(وفي الأسبوع الماضي، أرسلت شبكة تلفزيونية طاقم التصوير لإجراء مقابلةٍ معه في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وقابلهم في المطعم، لكنَّه لم يذكر أنَّه يملكه، ويقول عن ذلك: "سألتُهم إن كانوا يريدون التوقف لتناول الشطائر. قلتُ لهم إنَّني أعرف صاحب المطعم").
وقال المحمدي، المنتج الإخباري من مصر، إنَّه لم يكن يعلم أنَّ الجمسي يملك متجراً للأطعمة البسيطة، ولم يهتم بذلك، فوفقاً لقوله: "جودة العمل أهم من مظهر الشخص أو الشركة".
وبالنسبة للغرفة التي حوَّلها إلى استوديو، أضاف: "عظيمٌ أنَّه أعد شيئاً يبدو لطيفاً كهذا".
وقال الجمسي إنَّه سيقدم الأسبوع المقبل تقريراً من الجمعية العامة للأمم المتحدة لأكثر من قناة مصرية. ويرى أنَّ دوره هو العمل كمترجم بدوامٍ جزئي لينقل فكر الشعب الأميركي إلى لغة وطنه، وسفير نوايا حسنة في الوقت ذاته لبلدٍ يشعر أنَّه موطنه أكثر من بلده الذي ولد فيه.
وقال: "بوجود السيد ترامب كرئيس للولايات المتحدة، أشعر بأنِّي يتوجب عليَّ شرح أميركا بصورةٍ أكبر للشرق الأوسط".