عن العلاقات العامة أتحدث “4”|

كان النظام الإسلامي حريصاً على اكتساب ثقة الجمهور الذي احتضن نشأة الدعوة الإسلامية في بداية مهدها، وأسس لهذا نظاماً لا يمكن لمن طبَّقه أن يخسر جمهوره أبداً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/16 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/16 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

إلى كل الباحثين عن بناء جمهور قوي، على مستوى المؤسسات والدول والهيئات، أهدي إليهم خلاصة أبحاثي في هذا الأمر.

كان النظام الإسلامي حريصاً على اكتساب ثقة الجمهور الذي احتضن نشأة الدعوة الإسلامية في بداية مهدها، وأسس لهذا نظاماً لا يمكن لمن طبَّقه أن يخسر جمهوره أبداً.

ولكن تعالوا بنا نتدبر هذه الآية؛ لنستنبط منها كيف اهتمَّ الإسلام بالجمهور:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62).
الذي نستنبطه من هذه الآية هو عناية الإسلام بتقسيم الجمهور، وليس ذلك فحسب، بل وتصنيفهم، ولو لم يكن للجمهور اعتبار في جهاز العلاقات العامة الإسلامية، لاكتفى بتصنيف الجمهور إلى فريقين فقط: مؤمن وكافر.

وفي هذه الآية نجد الجمهور هو (المؤمنون – اليهود – النصارى – الصابئة) ثم جمعهم حول الرسالة الموجهة لكافة الجماهير، وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن مع اختلاف طريقة الاتصال بكل صنف من أصناف الجماهير السابقة.

وتعالوا بنا نطّلع على هذا الحصر الذي قمت به لأهم الجماهير النوعية التي تعامل معها جهاز العلاقات العامة الأول ممثلاً في النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام والرعيل الأول:

1- مؤمن.
2- مؤمن نفعي (المؤلفة قلوبهم).
3- مذبذب (المنافقون).
4- أهل كتاب (اليهود – النصارى).
5- مشركو قريش عبَدة الأصنام.
6- المجوس.

مما سبق يتضح لنا مدى قوة جهاز العلاقات العامة في الإسلام في السبق لنظرية اعرف جمهورك، والتي تنسب لعالم العلاقات العامة "إيفي لي"، وذلك من خلال المعرفة الدقيقة بشرائح الجماهير النوعية التي تؤثر في جهاز العلاقات العامة الإسلامي الأول، وكذلك تتأثر به.

إذاً كانت هناك فلسفة خاصة للمنظور الإسلامي للعلاقات العامة في التعامل مع الجمهور الذي يعتبر المحور الذي تدور حوله قضايا العلاقات العامة.

والآن مع شرح لأهم القواعد العامة التي نتعلمها من المنظور الإسلامي في فن التعامل مع الجماهير النوعية، والتي تعتبر منطلقاً جديداً لتصحيح مسار العلاقة مع الجمهور، وإليكم القواعد:

1- حب الجمهور وتمنّي له الخير أياً كان نوعه أو جنسه أو دينه:

الدليل على هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: (ألقِ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).

2- مراعاة مشاعر الجمهور:
سبب نزول قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تُخافت بها وابتغِ بين ذلك سبيلاً) أن المشركين كانوا لا يحبون سماع القرآن.

3- استخدام نظرية تفريق الجمهور:
استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشكلين رائعين على النحو التالي:

أ- مع جمهور المؤمنين: من أجل إشعال روح المنافسة والحماسة لتحقيق الهدف وذلك عندما كان يقسم المسلمين في الحرب إلى معسكرين: معسكر المهاجرين، ومعسكر الأنصار.

ب- مع جمهور غير المؤمنين: كان حريصاً على التفريق في رسائله الاتصالية بين المشركين وبين أهل الكتاب، وحتى طائفتي أهل الكتاب، كان التعامل معهم على أنهم يهود ونصارى، والأقرب هم النصارى كما صرحت آيات القرآن.

4- نظرية النملة: حذر وخدر

اكتشفتُ قاعدة إدارية في تعامل النملة مع باقي النمل في القرآن، ومما لا شك فيه أن القرآن ذكرها لنستخلص منها قاعدة هامة في التعامل مع الجمهور الداخلي، يقول تعالى في محكم التنزيل:
(قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)، عندما يكون هناك خطر أو هجوم على المؤسسة، فإن العلاقات العامة تقوم على فعل أحد أمرين أو خيارين هما:

أ- تخفي الخبر على الجمهور حتى لا يضطرب وتشيع البلبلة، وهذا ما حدث معنا في أيام النكسة حتى صدم الشعب من هول الصدمة.

ب- تقوم أجهزة العلاقات العامة بإطلاع الجمهور الداخلي على الحقيقة كاملة وهنا تنهار المؤسسة قبل اقتراب الخطر المتوقع منها، ويصدق في هذه الحالة المثل القائل "جنت على نفسها براقش".

ولكن ولأول مرة أجد حالة علاقات عامة يتم فيها إخبار الجمهور الداخلي بالحقيقة كاملة دون أن يضطرب الصف أو ينهار وتشيع البلبلة.

والسر في ذلك يكمن في قوله تعالى على لسان النملة (وهم لا يشعرون).
فأسست لقاعدة إعلامية قمت بتلخيصها كالتالي في "حذر وخدر".

فكان التحذير في قولها (لا يحطمنكم) والتخدير في قولها (وهم لا يشعرون).

إن شيوع الطمأنينة والثبات أحد عوامل تنفيذ الخطة المُعَدة من أجهزة العلاقات العامة للوصول بالمؤسسة لبرّ الأمان عند النوازل والأزمات والملمات.

انظروا وتأملوا معي، إنها نقلت للجمهور باحترافية عالية لا يمكن أن تراها إلا في أقوى أجهزة العلاقات العامة على الإطلاق، الخطر المُحدق بهم بل والمؤكد أن يلحق بهم إن هم لم يتبعوا الخطة المعدة من قِبل جهاز العلاقات العامة ممثلاً في النملة، ثم بعد ذلك قامت بتخدير موضعي للجمهور بقولها وهم لا يشعرون، حتى تجعلهم لا يسرفون على أنفسهم في التفكير في أسباب التحطيم، ولماذا يريد سليمان وجنوده تحطيمهم، وما الذي فعلوه كنمل، حتى يستحقوا التحطيم من قِبل سليمان وجنوده، وكل ذلك وغيره من الأسئلة التي من الطبيعي أن تجدها مع أي جمهور داخلي يشعر بخطر ناتج عن ظلم أو اضطهاد، والتي يمكن أن تكون سبباً في مضيعة الوقت وإلحاق الضرر، إن لم يتحرر منها الجمهور ويفكر جدياً في خطة العبور بالمؤسسة لبر الأمان، إذا وقع مكروه لا تتوقف طويلاً أمام أسبابه، وأشغل نفسك في كيفية تخفيف الأضرار الناتجة عنه أولاً حتى لا تتفاقم الكارثة.

5- تهيئة الجمهور:
لا بد لأجهزة العلاقات العامة قبل أن تشرع في البدء في حملة أو تنفيذ خطة اتصالية مع الجمهور، أن تقوم بتهيئة الجمهور أولاً، وذلك ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل مصعب بن عمير للمدينة المنورة سفيراً؛ لتهيئة الجمهور في المدينة المنورة أولاً قبل ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم.

6- الشورى:
إن إشراك الجمهور في صنع القرار، يجعله يشعر بقيمته، ليس ذلك فحسب، ولكنه سيدافع عن تلك المؤسسة التي سمحت له بالشعور بذاته.

7- نظرية الهدهد:
(العفو عن الصغائر إذا كانت لأجل منع الكبائر).
وذلك يتضح جلياً في موقف الهدهد مع نبي الله سليمان، عندما تغيّب عن أمر تنظيمي خاص بالملك سليمان، فقال له سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (سورة النمل: 21).

فعفا سليمان -عليه الصلاة والسلام- عن الهدهد لما كان الهدف الذي أدى إلى خروجه عن النظام الإداري المتبع هو الصالح العام للمملكة.

8- المرونة:
عند كتابة وثيقة صلح الحديبية، اعترض المشركون، وعلى رأسهم سهيل بن عمرو على لفظ (رسول الله) الوارد في الوثيقة بعد اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو كنا نعلم أنك نبي ما قاتلناك، ورفض علي بن أبي طالب أن يستجيب لهم ويمسح الاسم، فما كان من النبي إلا أنه قال لعلي بن أبي طالب: أرِنيها، فوضع علي بن أبي طالب يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقام النبي بمحوها.

إنه بعد النظر والمرونة والقياس على المصالح والمفاسد، فالنبي رأى أن المصلحة التي تعود على الدولة الإسلامية أعظم من الضرر الذي يمكن أن يكون ناتجاً عن مسح لفظ رسول الله.

9- العفو عن الأعداء عند المقدرة ما لم يترتب ضرر على العفو عنهم:
تروي كتب السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان نائماً ومعلقاً سيفه في شجرة بجواره، فجاء إليه أعرابي وأخذ سيف النبي يريد قتله وقال له: يا محمد، مَن يمنعك منّي؟
فقال له النبي: الله.

فسقط السيف من يد الأعرابي، وأخذه النبي ووضعه على رقبة الأعرابي وقال له: مَن يمنعك منّي؟
فقال له الأعرابي: يا محمد، كن خير آخذ.
فقال له النبي: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
فقال الأعرابي: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.

فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما ذهب هذا الرجل إلى قومه قال لهم: جئتكم من عند خير الناس، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، فتعجب النبي وقال له: ما منعك أن تسلم يومئذ؟ فقال الأعرابي: حتى لا يشاع أني أسلمت خشية القتل.

انظروا إلى جمال الفطرة، والرسائل الاتصالية الإقناعية التي تحتاج إلى مجلدات لنستخلص ما فيها من فنون إدارية، بعكس ما يدعو له أمثال "روبرت غرين" عندما تحدث عن قاعدة من قواعده في الإدارة قائلاً: "اسحق أعداءك متى تمكنت منهم، ومتى سنحت لك الفرصة".

لا شك أن قواعد خير الأنام في الإدارة خير وأبقى أثراً، وبمثلها تستطيع أن تغزو أجهزة العلاقات العامة قلوب جماهيرها.

10- التدرج عندما يكون الهدف من الرسالة الإقناعية تغيير قناعات:

إذا كانت الخطة أو البرنامج الاتصالي المقدم للجمهور متعلقاً بتغيير قناعات أو سلوكيات تعودت الجماهير عليها فيجب مراعاة التدرج في التغيير، مثلما حدث في قصة تحريم الخمر.

حيث تم تحريمها على ثلاث مراحل عبرت عنها الثلاث آيات التالية:
المرحلة الأولى:
قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا).
المرحلة الثانية:
قال تعالى: ( لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى).
المرحلة الثالثة:
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ).

وتعد هذه القواعد العشر في التعامل مع الجمهور من أقوى القواعد التي تؤسس لاتصال جمهوري فعال يمتد نفعه لأجيال، وبإغفال أي منها فلا بدّ أن تجد خللاً في المنظومة الاتصالية الإقناعية، ولمَ لا وهو مستمد من مشكاة النبوة الذي لا ينطق عن الهوى؟ والذي أرسله مَن يعلم السر وأخفى، والذي يعلم ما يصلح النفس ويُفسدها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد