وداعاً رفح

المدينة التاريخية والحاضرة الرائعة تضيع اليوم في كلمتين (المرحلة الثالثة)، كلمة يرددها الناس دون معرفة حقيقتها ودون معايشة المأساة التي تسببت فيها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/14 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/14 الساعة 03:23 بتوقيت غرينتش

المدينة التاريخية والحاضرة الرائعة تضيع اليوم في كلمتين (المرحلة الثالثة)، كلمة يرددها الناس دون معرفة حقيقتها ودون معايشة المأساة التي تسببت فيها.

المرحلة الثالثة، خمسة كيلومترات عمقاً في طول 13 كم مع الحدود مع غزة تعني 75 مليون متر مربع، تعني عشرين ألف فدان من أجود الأراضي الزراعية تنتج أجود أنواع الفاكهة (خوخ وبرتقال وتفاح وزيتون)، تعني تاريخاً امتد لقرون، ومدينة رفح حاضرة مصرية ثم يأتي السيسي ليمحوها من الوجود.

تعني تهجير أكثر من (25 ألف نسمة) (خمسة آلاف أسرة) وتركهم في عَراء وخلاء دون أن يعرفوا إلى أين يذهبون، ولم يحدد لهم صاحب قرار التهجير الوجهة، ولم يوفر لهم بديلاً.

فصل من التهجير الأسود في تاريخ مصر، اجتثاث بشر من أراضٍ ارتبطوا بها عقوداً ممتدة، بعد أن مارست عليهم دولتهم أقسى درجات التآمر والبطش، ابتدأ السيسي المؤامرة بتسريبات مدبرة وتفجيرات مدبرة كذلك ليتخذ القرار الأول بإخلاء 500 متر، ويتم تفجير البيوت والمساجد وتجريف الأراضي بانتقام قبيح، ثم إخلاء منطقة ثانية بعمق كيلومتر واحد ليُخرج عدداً من الأسر تجاوز الخمسمائة أسرة بوعود مضى عليها أربعة أعوام دون أن ينجز منها شيئاً، وبعد أن صوّر بعض كلاب العسكر صوراً لأثاثات وتقسيم ما سموه مدينة رفح الجديدة، التي أُعلن بعد ذلك إلغاؤها.

يضاف اليوم ما يقارب خمسة آلاف أسرة مطلوب منها أن ترحل وتترك أرضها وديارها بطريقة غريبة مريرة وقاسية.

وقد اتبع النظام مع الأهالي فيها أسلوب الصدمة وفرض الأمر الواقع، فبعد إخلاء المرحلة الأولى والثانية بقرارات مفاجئة، وتنفيذ عنيف دون إعطاء وقت للأهالي حتى لحمل أمتعتهم ترك المرحلة الثالثة بسكانها رهائن للعنف والعنف المضاد، وتركت مساحة لتنظيم الدولة أن يفعل، فمثلاً يترك التنظيم ليأتي إلى وسط رفح ويحاصر بيوت بعض المشايخ وعملاء المخابرات ثم يفجرها وينصرف، وتأتي سيارة الفيرنا المباركة بمعدل أكثر من أسبوعي ليختطف مَن يختاره ركابها ويذهبون بعيداً، ثم يسمح لهم بالعودة أيضاً إلى وسط الميادين لإلقاء جثته أمام المارة ثم ينصرفون، أو قد يكتفون بالرؤوس فقط لتزداد مساحة الرعب النفسي، ولا يأمن ساكن في بيته من دانة مدفع أو دبابة يطلقها عشوائياً ارتكاز أمني ثابت وآخر متحرك أو زخة من طائرات بدون طيار، أو حتى بطيار لا يعرف مطلقها لماذا وأين أطلقها.

ولا يأمن الراكب في سيارته حتى ولو مر من بين الأكمنة، فكثيراً ما يقتل ركاب سيارات لا يعرف قاتلهم فيمَ قتلهم.

ثم وسع النظام دوائر الاشتباه فجعل كل مَن يحمل بطاقة إقامة من رفح والشيخ زويد موضع اتهام وتحقيق غالباً ما ينتهي بالاختفاء القسري، وكثيراً ما تكون تصفيته هي نهاية المطاف، مما حمل الكثير والكثير جداً على تغيير محل الإقامة إلى محافظات أخرى وأعقبها بتغيير أرقام لوحات السيارات حتى يتمكنوا من الحركة في باقي محافظات الجمهورية دون مضايقات وتعطيل.

وسهلت الدولة جداً في الإجراءات كما سهلت إجراءات نقل الطلاب والموظفين، وخلال المدة السابقة أربع سنوات مضت كانت الكهرباء والمياه لا تأتي إلا كالضيف مرة كل ثلاثة أسابيع، وفِي الأخير دام انقطاعها لشهور، وكان الذي يبادر لقصف المحطات والتسبب في قطع الكهرباء غالباً الجيش بشهادة موظفي شركة الكهرباء والأهالي.

ثم ضرب الجيش حصاراً محكماً على المنطقة شرق العريش مع إضافة شرط مهم للعبور إليها وهو أن تكون تحمل بطاقة رقم قومي تثبت أن الإقامة في رفح أو الشيخ زويد، وبذلك حرمت الكثير والكثير جداً من العودة إلى أراضيهم.

ثم تفتَّق الذهن العسكري عن أسلوب جديد، حصار قرى كاملة، والطلب من الأهالي المغادرة سيراً على الأقدام دون حمل شيء، أي شيء، وكأنها تحمل رسالة أخرى للقرى المجاورة: مَن استطاع أن يغادر بأمتعته فليغادر، فإذا جاء دور قريتك فستغادر دون أن يسمح لك باصطحاب شيء.

وبالصدمة والمفاجأة أيضاً تُسرب المخابرات العسكرية أوامر إدارية لموظفي شركة المياه بإخلاء مقراتهم ونقل معداتهم إلى ما بعد الخمسة كيلومترات المحددة منطقة خالية عازلة، وبالطبع تم إرسال نفس الخطاب إلى الكهرباء والصحة والتعليم والتموين وخلافه.

وهكذا يتأكد للجميع أن قرار الإخلاء اتُّخذ وجارٍ التنفيذ، بدون أي اعتبار لمنطق يقول: أين سيذهب كل هؤلاء؟ بقي فقط ليصل لغز الحبكة العسكرية القذرة ذروته، عملية مضروبة يقتل بها عدد من العسكريين ثم قرار عنتري من السيسي بالإخلاء الكامل والتجريف الكامل، ولا مانع من اكتشاف عدد من الأنفاق طولها قريب من الخمسة كيلومترات، ماذا يفعل الناس؟! إنه البلاء الملاحق لهم أينما ارتحلوا.

وداعاً رفح، وداعاً سيناء، فأنت اليوم فريسة تحت يد تاجر جشع وشعب يتنافس في أن يثبت الجميع خيانة الجميع، ويثبت الجميع عجز الجميع، حتى عجز الكل، وبقي مَن يتآمر على هذا الوطن ومستقبله، ويتاجر بأراضيه ومعاناة مواطنيه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد