رأيتُ العديد من أبناء المنطقة يلعبون اليانصيب بفرحٍ وارتياح نفسي وروحي، وبكل ثقةٍ في الرِّبح والفوز بالملايين، أو على الأقل بالآلاف.
وقد شَهِدتْ هاته الممارسة كباقي الممارسات التي يقوم بها الإنسان تطوراً، حيث تطوَّرت من مجرد سلوك فردي إلى ظاهرة اجتماعية، تجتاح المنطقة، وتُلقي بظلالها على أعناق العديد من الشباب والشيوخ، قد يُؤدي ذلك إلى تحولها من مجرد ظاهرة اجتماعية إلى ثقافة.
1- تطور الممارسة
كما قلنا سابقاً، تحوَّلت هاته الممارسة من مجرد سلوك فردي إلى ظاهرة اجتماعية، وتكرارها كظاهرة في المجتمع قد يُؤدي إلى تحولها إلى ثقافة. فما الفرق بين السلوك الفردي والظاهرة الاجتماعية والثقافة؟
أ- كسلوك فردي
عندما نتحدث عن سلوك فردي، فهذا يعني أنه سلوك مرتبط بشخصية الفرد واختياراته، يعني مرتبط باستعداده النفسي وحريته، وقناعاته بالفعل المُمَارس. وأي فعل -يصدر من فرد ما- يحتمل أمرين، إما أنه فعل مقبول من المجتمع، أو أنه فعل غير مقبول، فإن كان مقبولاً فإن الفرد يُمارسه بطريقة عادية وبضمير مرتاح، مُظهراً فعله بدون حرج. أما إن كان الفعل غير مقبول اجتماعياً، فإن الفرد يقوم بممارسته بضمير مؤنب، وخوف من أن يُكشف أمره. يعني أنه يقوم بتلك الممارسة بعيداً عن أنظار الآخرين. وهذه الممارسة يقوم بها إما بعد تبرير فلسفي يخلقه بنفسه لتبريرها، أو أنه يقوم بها بسبب إدمان مرضي يعني (عادة متجذرة).
وبخصوص اليانصيب، فهو فعل لم يكن مقبولاً اجتماعياً، حيث كان سلوكاً فردياً يُمارس بعيداً عن الأنظار، كممارسته في مكان لا يضم سوى الأفراد الذين يقومون بنفس الممارسة، يعني الأشخاص الذين يقبلون ذاك الفعل.
لكن لم تعد هاته الممارسة حكراً على أماكن مخفية في أزقة مظلمة، بل صارت تُمارَس بطريقة علنية، نظراً لتطبيق مبادئ الرأسمالية الحرة، التي تجعل كسب المال حقاً مشروعاً، دون مناقشة الوسائل (باستثناء المخدرات التي بدأت التجارة بها تأخذ مجرى القبول في المبادئ الرأسمالية). أضف إليها دور الإعلام في التسويق لهاته الممارسات، وجعلها كأمر عادي إنسانياً.
وهكذا تحوَّلت المسألة من مجرد سلوك فردي إلى ظاهرة اجتماعية، رغم أن البلدان الإسلامية صريحة في تحريم هذه الأمور، إلا أن تطبيق المبادئ الرأسمالية كانت أقوى لظروف كثيرة، لا مكان لمناقشها هنا. وتطبيق هذه المبادئ جعل من ممارسة اليانصيب شكلاً من أشكال كسب المال، فأدى إلى وضع تبريرات اجتماعية واقتصادية لهذا الكسب، حتى تحولت الممارسة من سلوك فردي إلى ظاهرة اجتماعية.
ب- كظاهرة اجتماعية
عندما نتكلم عن ظاهرة اجتماعية ما، فهذا يعني أن هناك ممارسة غير مقبولة اجتماعية، لكنها تُمارَس نظراً لخروجها عن سيطرة المجتمع، فالأشخاص الذين يُمارسونها لم يعودوا يُخفون ممارستهم تلك، بل أصبحوا يفعلون ذلك بكل ثقة وإصرار، لكنهم يعلمون ومتأكدون من أن تلك الممارسة مُخالفة لعقلية المجتمع.
وهذا الأمر ينطبق على اليانصيب، فرغم أن مزاول هذه الممارسة يعلم أن المجتمع لا يقبلها، ومخالفة لثقافته، إلا أنه يُمارسها دون أن يأبه بذلك، بل يضع بعض المبررات الفلسفية لتبرير ممارسته تلك.
ج- كثقافة
نقصد بالثقافة، تلك القناعة التي تُسيطر على عقلية المجتمع ككل، حيث إنها تُصبح معياراً لقياس الأفعال على أساسها، لتمييز الفعل الصواب عن الفعل الخطأ. مما يعني أن الثقافة تُشكل أخلاقَ المجتمع. فأي فعل يُمارس من طرف فرد ما يكون أخلاقياً أو غير أخلاقي، حسب ثقافة المجتمع.
والثقافة أنواع، فهناك الثقافة القبلية، والثقافة الوطنية، والثقافة القومية، والثقافة الدينية، والثقافة الإنسانية. ولكل منها تأثير معين على عقلية الفرد. (لا مجال لمناقشة هاته الأنواع هنا).
فاليانصيب أصبح يهدد الحدود الثقافية في مجتمعنا، فلم يعد الأمر محصوراً في مجال الظاهرة الاجتماعية، بل صار يدق أبواب الثقافة. فقد أصبح قبول ممارسة اليانصيب من طرف المجتمع وشيكاً. فتكرار السلوك من طرف الأفراد داخل المجتمع قد يؤدي إلى إدخالهم دون وعي اجتماعي إلى خانة الثقافة. (وإن لاحظتم فإن نفس الأمر ينطبق على ظاهرة الغش في الامتحانات، فما أقوله هنا ينطبق تقريباً على هذه الظاهرة).
2- الماكر والغبي
قد يعتقد لاعب اليانصيب أنه سيُصبح غنياً بممارسته لتلك اللعبة، فالإعلانات التي تتحدث عن الفائزين على وسائل الإعلام يظنها صديقنا مُشاهدة مباشرة لحدث تاريخي، وهو لا يعلم أن الصائد لا يُعطي الطعم، بل يجذب به الفريسة.
إن اليانصيب لا يعتمد على أية قدرات، لا على القدرات العقلية، ولا على القدرات العضلية، حتى إنه أيضاً لا يعتمد على الحظ. فالقائمون بهذه اللعبة هم من يتحكمون بنتائجها. ولا أقصد هنا بكلمة القائمين من يبيع لك تلك الورقة، فالبائع الذي تفصل بينك وبينه تلك الطاولة الزجاجية الغريبة المليئة بأغراض تخص اليانصيب هو مجرد مخلب في جسم وحش. أقصد بكلمة القائمين تلك الشركات العابرة للقارات، التي تدير المباريات حول العالم، فهي من تتحكم بنتائج المباريات (TotoFoot)، نادراً ما تكون المباراة تسير حسب قدرات اللاعبين، أما أغلبها فهي خارجة عن سيطرة أدهى المدربين. وهذه الشركات أيضاً تتحكم في ترتيب تلك الأرقام التي انحنى ظهرك بسبب ترتيبها على تلك الورقة (Lotto). يعني أن الشركات الكبرى القائمة باللعبة هي نفسها من تتحكم بالنتائج.
فدفعك لبضعة دريهمات لتفوز بالآلاف، عبارة عن اصطياد مُربح لتلك الشركات، فالدريهمات لا تعود كذلك، إن كان اللاعبون بالملايين. حتى وإن فاز شخص ما بتلك اللعبة، وشربت معه الخمر* فرحاً بتلك الليلة السعيدة، فهذا لا يعني أن صديقك محظوظ، بل إنه طُعم سيجذب العديد من الفرائس في نفس البحيرة التي يعيش فيها. إنه كمين مُتحرك يا صديقي.
ما أقصده هو أن فوزك لا حَظ فيه، بل هو كرم من الشركة نفسها، إنها صدقة (غير مقبولة طبعاً) تُخرجها تلك الشركات من أموالها الطائلة التي تربحها من جيوب الضعفاء. أي أن الشركات في جميع الأحوال رابحة، سواء رفعت يديك إلى الله تضرعاً لتفوز أنت، أو ذهبت إلى العرافة لتعرف النتيجة قبل حدوثها. الشركة هي الرابحة وأنت الخاسر، تقبل تآمر العالم عليك.
وإن تعمقنا في الأمر بعض الشيء، برؤية أكثر تشاؤمية وواقعية، فإننا سنجد أن اليانصيب، تهدم الأساس الاقتصادي للطبقة العمالية. فإن تأملنا جيداً المسألة سنلاحظ أن العمال هم أكثر الأشخاص ممارسة لهذه اللعبة، طموحاً منهم في أن يُصبحوا أغنياء. إلا أن طموحهم هذا غبي لدرجة الغباء الكامل والمثالي، فما يحصل عليه العامل من أجرة قليلة (تدل على عجرفة رب العمل ومرضه بعشق المال) يرمي أجزاء منها في تفاهة لا تُفيده لا من قريب ولا من بعيد، كأنه يُعيد بعض الأموال لرب العمل الذي استأجره (كأن العامل يدفع ضريبة العمل).
يُمكن أن يرمي تلك الأجزاء من أجرته في تلك اللعبة الماكرة، ويستمر في ذلك لآلاف المرات، ويربح بعدها آلاف الدراهم. ولو أنه قام بحساب بسيط لا يرقى حتى إلى مستوى التعليم الابتدائي، سيجد أنه لو قام برمي تلك الأجزاء في صندوق خشبي، فإنه بعد الاستمرار في ذلك لآلاف المرات سيحصل على صندوق خشبي مليء بنقود مضمونة مئة بالمئة. ربح تتوقع نتيجته منذ البداية.
لا أظن أن الغباء يلهو في عقول البعض لهاته الدرجة، حتى يُصدقوا بخرافة الغنى من اليانصيب، فحتى لو فاز أحد ما بالملايين، فإن هوى اللعبة سيعيد المياه إلى مجاريها، يعني أن الدورة الدموية قائمة في هاته اللعبة أيضاً، وأنت أيها اللاعب العضو الذي يُصاب بالنزيف دائماً (للأسف لا علاج لك).
*الخمر حرام في الدين الإسلامي، وأيضاً مُضرة بصحة الإنسان حسب الدراسات الطبية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.