يوميات الحصار
في الخامس من يونيو/حزيران وما أدراك ما يونيو، ذلك الشهر الذي يلهب ظهورنا بهجيره وهزائمه التي لا تنتهي، أصحو ذاك اليوم كعادتي اول ما تصل إليه يداي الموبايل، وفي جولة سريعة علي مواقع التواصل بدأت خيوط الحدث تتجمع في يدي.
لم أكن أعلم بعد أن أوصلت أولادي إلى سلم الطائرة في الرابع من يونيو أنني سأستيقظ في يوم الهزيمة العسكرية الكبرى على هزيمة سياسية تجتاح الواقع العربي وتفتك بإحدى أرضياته الصلبة مجلس التعاون.
الأيام الأولى بدت بطيئة متثاقلة لزجة وكل الاحتمالات مفتوحة.
هاتفني صديقي المهندس مساء الخامس من يونيو محفزاً لي وناصحاً بأن أترك كل ما يشغلني الآن وأتوجه إلى أقرب سوبرماركت وجلب أكبر قدر من البضائع؛ لتعيننا علي أيام الحصار الصعبة، قلت له بعفوية: تكفي لكم من الأيام؟ قال لي: شهر، شهرين.
قلت له: وبعد.. هل سينتهي الحصار؟ أجابني: لا أعلم، قلت: حسناً فلمَ أخزن أطعمة؟
ثم يميل ناحيتي صديق آخر ينصحني بتحويل أموالي إلى دولارات، وثالث ينصح بالخروج بمن تبقى من عائلتي إلى حيث تنجلي الغمة، ورابع يقول خلي سيارتك (فوول تانك) وخليك (ستاند باي).
الحقيقة كنت اسمع كل النصائح وعندي يقين بأني لن أنفذ شيئاً منها.
منذ قدمت إلى هذا البلد وهم يتعاملون معنا كأبناء البلد، وقد حان الوقت لأن أتعامل كابن من أبناء البلد.
لا تخزين سلع، لا دولرة، لا استعدادات للقفز من السفينة.
حسمت أمري، سأعيش كما يعيش أصحاب البلد أو نموت معهم… انتهت الأيام الأولى.
بدأت الغمة تنكشح، الهزة لم تستمر إلا بضعة أيام، ثم بدأت الحياة تعود سيرتها الأولى، السلع تتوافر، مخزون استراتيجي، طرق بديلة، فتح ممرات بحرية وجوية بديلة… إلخ، المهم أنك لا تشعر بأي نقص في احتياجاتك اليومية من أول أيام الحصار إلى اليوم.
أيام الكوميديا
الاتصالات اليومية من الأحبة الذين يلقون بفضول أوقاتهم لإعلام غجري صور لهم أن الدوحة تعيش اقتصاد حرب، فتتلقى منهم المكالمة تلو المكالمة، وأنت تضحك وتضحك… ويختمها بجملة لاقت شهرة ورواجاً غير عادي: طيب فيه زبادي عندكم… يا عمنا والله فيه زبادي.
أيام التلفيق
صدر قرار المقاطعة ثم جرى البحث عن اتهام، فتارة تصريحات مفبركة، وأخرى دعم الإرهاب، وثالثة اتصال بحماس والإخوان، ورابعة، وخامسة، وسادسة، يذكرونك بالإيفيه الشهير (صدق سلخت قبل ما أدبح)، فبدت اجتماعات عصابة الأربعة مثيرة للشفقة.
أيام الكذب
صورة كبيرة للأمير يجتمع حولها محبوه كل ليلة يوقعون له بالولاء والمحبة، هذه الصورة تقع خلف منزلي مباشرة، أمر عليها كل يوم فأصافح رهطاً من الناس يتسابقون في حب للتوقيع، وإظهار الدعم والمؤازرة للأمير الشاب.
ثم يحدثك أحدهم أنهم يطالبون برحيل الأمير، ويخرج لك فوتوشوب عجيب.
كنت أود أن أكتب هذه الملاحظة في فقرة الكوميديا، غير أن الكذب على الجماهير الذي احترفته دول الحصار كان من نوع الكوميديا السوداء… جداً.
أيام الخوف
ولأنني مواطن إحدى دول الحصار، وبحكم عملي، كنت في الأيام الأولى أحاول أن أبتعد عن التعامل المباشر مع أهل البلاد، رغم ما أعلمه من حسن عشرتهم وجميل طبائعهم، إلا أن الموقف معقد الآن جداً، ثم تضطر للتعامل تحت ضغوط العمل بالمستشفى فتفاجأ بأن الأخلاق كما هي، والابتسامة التي تحتضنك كما هي، والروح الكريمة لم تتغير، والحب يلف الجميع.
أيام المؤازرة
الدعم التركي الكبير، والوقفة الكويتية العمانية، فرغت الحصار من مضمونه، وساهمت إلى حد كبير في إفشاله، ولا يفوتني أن أسجل هنا أنني لم ألتق تركيا واحداً في قطر اللهم إلا حال ذهابي لتناول العشاء في مطعم تركي شهير يمتلكه أتراك بالدوحة منذ سنوات طويلة.
أيام السياسة
تحركات واعية على أعلى مستوى، وردود عقلانية أمام هجمة بربرية جعلت الغلبة للدبلوماسية القطرية على سياسات الدول المحاصرة، حتى غدت اجتماعات وزراء خارجيتهم ورموز سياساتهم مثاراً للسخرية والفكاهة، وأصبح وزير الخارجية القطري الهادئ وجهاً يبث الطمأنينة في قلوب الجميع، بينما عصابة الأربعة تلقي بقنابل دخان محاولة طمس الواقع أمام شعوبهم والعالم.
أيام المؤامرات
هي المكملة لحلقات الكذب غير المباح.. ادعاءات نقص السلع، مظاهرات الدوحة، شعار ارحل، الدبابات التركية والإيرانية في الشوارع.. إلخ، وكلها محض افتراءات ومؤامرات؛ لزعزعة الثقة في القيادة، وبث جو من الهلع والريبة، ولكن ما إن تتجول بسيارتك في الدوحة حتى تطلق بنفسك رصاصة الرحمة على إفكهم وكذب أجهزتهم الإعلامية.
يوم الكلمة الفصل
كانت كلمة سمو الأمير في توقيت رائع، وذات دلالات خاصة، ورسائل للمواطن والمقيم علي حد سواء، رسالة طمأنة من موضع قوة، أشاعت جواً من الطمأنينة والابتهاج بين الجميع، تلتها حزمة قوانين أسعدت المواطن والمقيم على حد سواء.
في النهاية، بدون الدخول في تفاصيل، وفي كلمة واحدة لمغترب من دول حصار قطر ما زال يعيش في قطر بكل عزة وكرامة، أؤكد أنه بدون السوشيال ميديا والإعلام لم يكن لأحد سكان قطر أن يميز بين الحياة في ظل الحصار والحياة بدون حصار حتى إن الزملاء من غير الناطقين بالعربية والذين لا تنشغل الميديا عندهم بالقضية يسألوننا بين الحين والآخر ما أخبار الحصار؟
كما أشهد أن قطر شعباً وحكومة مقيمين ومواطنين يعيشون حياة عادية لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
أستيقظ كل يوم أتفقد المعركة على السوشيال ميديا أتجه إلى عملي وكأن شيئاً لم يكن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.