ربما لم يتراجع شأن أحد في عالمنا المعاصر، بعد كان يتم الاحتفاء به، مثلما حدث مع أونغ سان سو تشي الزعيمة البورمية التي حازت على جائزة نوبل للسلام، ولكن لماذا اتخذت هذا الموقف الغريب؟.
صنعت سو تشي. السياسية البورمية، و تحولت إلى بطلةٍ ديمقراطية، حفرت اسمها كمدافعةٍ قوية عن حقوق الإنسان. ضحت بحياتها الأسرية، وحريتها، وحتى صحتها، وهي تقاتل فداءً لوطنها ومستقبل شعبها.
لكن بعد أن خرجت من كفاحها لعقدين من الزمن منتصرةً ونقيةً الصفحة، وقفت صامتةً حين كان أبناء وطنها البورميين يتعرَّضون للاضطهاد، والذبح، والتهجير من بلادهم بسبب دينهم، حسب تقرير لصحيفًة الغارديان البريطانية.
سكتت دهراً ونطقت!
كسرت أونغ سان سو تشي صمتها تجاه الانتهاكات المتصاعدة ضد الأقلية المسلمة من الروهينغيا، والتي وصفها مسؤولون بالأمم المتحدة بأنَّها "تطهيرٌ عرقي"، لكنَّها لم تفعل ذلك إلا للدفاع عن الحكومة التي هي جزءٌ منها، الأمر الذي أثار انتقاداتٍ شديدة من قبل أصدقائها، وحلفائها، ومؤيديها السابقين.
وقال كبير أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو الأسبوع الماضي في رسالةٍ وجهها إلى "شقيقته الصغرى الحبيبة"، إنَّه "من غير المعقول أن يقودرمزٌ للصلاح بلداً كهذا".
توتو هو آخر فائزٍ بجائزة نوبل للسلام وبخ زميلته الحاصلة على الجائزة علناً. وأضاف: "إذا كان صمتكِ على ما يحدث هو الثمن السياسي لصعودكِ إلى أعلى مناصب ميانمار، فإنَّه بالتأكيد فادحٌ جداً".
وكما هو الحال مع الكثيرين الذين عرفوا أونغ سان سو تشي، البالغة من العمر 72 عاماً، في فترة نضالها، والملايين الذين أعجبوا بها، يبدو توتو محبطاً ومنزعجاً من موقفها.
ففكرها القوي، وقدرتها على التعاطف، واستعدادها لوضع حقوق الآخرين قبل حياتها الأسرية وحريتها، كلها تجعل تساهلها التام في التعامل مع ما يحدث من معاناةٍ حقيقية وظلمٍ بيِّن أمراً غير مفهوم.
وكان نحو 386 ألف شخص، قد طالبوا عبر عريضة إلكترونية على موقع "تشانج.أورج" لجنة جائزة نوبل بسحب جائزة نوبل للسلام من زعيمة ميانمار أونغ سان سوتشي، حسب موقع "يورو نيوز".
ولكن اللجنة النرويجية لجائزة نوبل أعلنت استحالة سحب جائزة نوبل للسلام من رئيسة حكومة ميانمار أونغ سان سوتشي التي حصلت عليها في عام 1991.
ونشرت اللجنة على موقعها الرسمي بيانا تشرح فيه إجراءات منح الجائزة استحالة سحبها من أي كان لأي سبب بحسب القوانين التي تعمل بها.
اللاهوت البوذي
الخسارة الشخصية الفظيعة ليست غريبة على أونغ سان سو تشي. إذ اُغتِيلَ والدها، الذي كان جنرالاً وبطلاً مناضلاً من أجل الاستقلال ضد بريطانيا، عندما كانت في الثانية من عمرها، وتوفي شقيقها الأكبر الحبيب في حادث غرق بعد خمس سنوات.
وكشخصٍ بالغ، فقد عانت معاناةً مباشرة من القوة الوحشية لدولةٍ قمعية، عندما أمضت 15 عاماً تحت الإقامة الجبرية، ومُنِعَت من وداع زوجها المتوفى أو رؤية ابنيها لسنواتٍ طويلة في الوقت ذاته.
وحين ألقت أونغ سان سو تشي خطاب فوزها بنوبل بعد عقدين من حصولها على الجائزة، أشارت إلى "المعاناة العظيمة" التي يتناولها اللاهوت البوذي.
وأسهبت في الحديث عن اثنين من أحبائها كانت تربطها بهما علاقةٌ وطيدة: "أن يُفرَّق بينك وبين من تُحب، وتُجبَر على العيش بقرب من لا تُحب. فكرتُ في السجناء واللاجئين، وفي العمال المهاجرين وضحايا الاتجار بالبشر، وفي هذا العدد الهائل من البشر الذين اقتُلِعوا من أرضهم، وابتعدوا عن ديارهم، ليفترقوا عن عائلاتهم وأصدقائهم، مجبرين على قضاء حياتهم بين الغرباء الذين لن يرحبوا بوجودهم دائماً".
ويبدو أنَّ قرارها بفصل معاناة الروهينغيا عن معاناة الشعوب الأخرى، بعد سنواتٍ من الإصرار على أنَّ حقوق الإنسان حقٌ مكتسب للعالم أجمع، والمحاربة "لجعل مجتمعنا الإنساني أكثر أمناً ولطفاً"، يُمثل بداية فصلٍ جديد مُربك في حياتها الاستثنائية.
تاريخ غريب بدأ صدفة
في الأعوام الـ43 الأولى من حياتها، كانت أونغ سان سو تشي شخصاً عادياً بصورةٍ استثنائية، إذ كانت ابنةً لبطلٍ قومي لكنَّها حافظت على خصوصيتها نسبياً وركزت على عائلتها.
وفي غضون بضعة أشهر في عام 1988، أصبحت بطلةً وطنية ورمزاً دولياً، وبات لاسمها مكان بين عمالقة الأخلاق مثل المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا.
وُلِدَت أونغ سان سو تشي عام 1945 في يانغون، العاصمة السابقة لبورما، وتلقت تعليمها في المدارس الدولية بالمدينة حتى عامها الـ15، عندما عُيِّنَت والدتها سفيرةً إلى الهند وانتقلت أسرتها إلى دلهي.
وحظيت بفرصة دراسة معدات الوقاية الشخصية في أوكسفورد عام 1964، حيثُ التقت مايكل آريس، الأكاديمي البريطاني الذي سيصبح زوجها في ما بعد.
وبمجرد زواجهما، عمل الزوجان لعدة سنوات في بوتانًً (بلد صغير يقع شمال الهند)، ثم عادا إلى أوكسفورد لإنشاء أسرتهما.
استأنفت أونغ سان سو تشي مهنتها الأكاديمية والكتابية، وأسست بيتاً دافئاً ومُحباً في المدينة، وذلك حتى تلقت مكالمةً هاتفية في عام 1988 أعادتها إلى ميانمار.
كانت المكالمة إخطاراً بحالة والدتها التي مرضت بشدة بعد إصابتها بسكتةٍ دماغية. وقالت أونغ سان سو تشي في وقتٍ لاحق إنَّها لم تكن تتوقع التحول الذي ستُحدثه هذه الدعوة في حياتها، إذ لن تعود أبداً إلى منزلها في أوكسفورد أو إلى حياتها الأسرية من بعدها.
تزامن مرض والدتها مع فترةٍ شهدت اضطراباتٍ وطنية، حين حشدت الاحتجاجات ضد الديكتاتورية العسكرية قوة كبيرة.
وأقنعها بعض النشطاء الراغبين في استغلال اسم عائلتها لصالح القضية بالانضمام إلى المعارضة، وكانت قد ورثت عن والدها حساً قوياً، لكن مبهماً، بمصيرها السياسي. وكان هذا تدريباً سياسياً مفاجئاً لها. إذ ألقت أول خطابٍ لها وسط استقبالٍ حافل في أغسطس/آب، وشاركت في تأسيس الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في غضون شهور، وسُجنت في صيف 1989، وحصلت على جائزة نوبل للسلام بعد مرور عامين بالكاد.
معاناة هائلة وصبر نادر
وفي عام 1988، ذهب زوجها وابناها، اللذان كانت تتراوح أعمارهما بين 11 و15 عاماً وقتها، إلى يانغون، ليناقشوا ما إن كان عليها أن تدخل عالم السياسة، مستعدين لقرارها بالبقاء في ميانمار.
وكانت أونغ سان سو تشي قد حذَّرت آريس من أنَّها ذات يومٍ قد تعمل بالسياسة، وقالت لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية: "جعلته يعدني بأنَّه لو اضطررتُ في وقتٍ ما للعودة إلى بلادي، فلن يقف في طريقي. وقد فعل".
وفي بداية الأمر، بدا أنَّ أونغ سان سو تشي، والسلطات الميانمارية، قد قلل كلٌ منهما من قدرات الآخر. إذ اعتقد المجلس العسكري أنَّه يتعامل مع سياسيةٍ هاوية، وسيكون سحقها وإعادتها إلى إنجلترا أمراً سهلاً.
تضمن حرمانها في من حاجاتها الأساسية الأيام الأولى من الاعتقال سوء تغذيةٍ شديد، حتى أنَّها بدأت تفقد شعر رأسها، وذكَّرتها السلطات بأنَّ لها كامل الحرية في مغادرة ميانمار، في حين قيدوا تأشيرات دخول عائلتها، ظانين أنَّ آلام الانفصال ستجعلها تشعر بالعجز في منفاها. لكنَّها اتبعت حدسها السياسي، وقررت وضع عائلتها في المرتبة الثانية، حتى حينما كان زوجها يصارع السرطان وحده في عام 1999، أو عندما عانى ابناها بعد وفاته.
وكانت أونغ سان سو تشي تتمتع برباطة جأش ملحوظة، فلم تنهار في البكاء سوى في مناسباتٍ نادرة، كانت من بينها مرةً قُطِعَت فيها مكالمةٌ هاتفية مع زوجها المحتضر.
اعتقدت أنَّ النظام سيستسلم لحركة الاحتجاجات القوية عاجلاً وليس آجلاً، وأنَّ مسيرتها السياسية ربما ستُقاس بالسنوات في أفضل الأحوال.
لكن بدلاً من ذلك، ستجعلها مواجهتهما التي امتدت لعقود ربما أشهر سجينة سياسية في العالم، وستجعل النظام الذي يسجنها منبوذاً دولياً.
بدت تقريباً كقائدةٍ مثالية، ترد على الإقامة الجبرية بعزف البيانو والتأمُّل. وغذَّت شجاعتها، وبلاغتها، وجمالها الأسطورة التي ستجعل حياتها تُجسَّد في فيلمٍ من بطولة الممثلة ميشيل يوه، وتدفع القيادة العسكرية المعزولة على نحوٍ متزايد لتقديم التنازلات.
التنازل بدأ هكذا
في عام 2010، رُفِعَت عنها الإقامة الجبرية، وفي عام 2012، سُمِح لها بخوض انتخاباتٍ تكميلية، فازت فيها بسهولة.
وأخيراً، غادرت أونغ سان سو تشي، التي كانت متأكَّدةً من أنَّها ستكون قادرةً على العودة، ميانمار لاستلام الجوائز الكثيرة التي حصلت عليها في أثناء فترة احتجازها.
وكانت تُستقبَل بالتصفيق في كل مكان؛ ففي غرفتي البرلمان البريطاني، قدَّمها رئيس مجلس العموم جو بيركو باعتبارها "ضمير بلد وبطلة للإنسانية". غير أنَّ بعض الأصوات المعارِضة بدأت إثارة المخاوف بشأن عدم اكتراث سو تشي الواضح بالروهينغيا.
ومع تصاعد العنف باطراد، تصاعدت كذلك الانتقادات المُوجَّهة لسو تشي. وحاول بعض المدافعين عنها الجدال بأنَّ ما منعها من الحديث عن المسألة هي المخاوف السياسية المؤقتة قبيل انتخابات عام 2015 الحاسِمة، لأنَّها كانت مُضطرة للانتظار حتى تحصل على أصوات القوميين البوذيين.
وبالفعل منح دستورٌ جديد جرى تزويره لصالح الجيش الجنرالات الذين حكموا لعقود السيطرة على الوزارات الرئيسية ومنعها من الرئاسة، ولذا كان مُرشَّحوها من أجل البرلمان بحاجة لكل صوتٍ يمكنهم الحصول عليه. لكن بعد ثلاث سنوات، فاز حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية التي تتزعَّمه بأغلبيةٍ كبيرة في الانتخابات، وحصلت على مجموعةٍ من الحقائب الوزارية من الخارجية وحتى وزارة الطاقة، فضلاً عن منصبٍ مُستحدَث كمستشارةٍ للدولة. بيد أنَّه مع ازدياد الهجمات ضد الروهينغيا، ازداد أيضاً صمتها الواضح.
لكنَّ بطلة حقوق الإنسان المشهود لها عالمياً سلكت مساراً مُحيِّراً؛ فأصبحت الحائزة الوحيدة على جائزة نوبل التي تتحوَّل إلى مدافعةٍ عن أشد انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في بلادها.
كلماتها قد تفسر دوافعها
ولاتزال دوافع أونغ سان سو تشي الحقيقية مبهمة، بيد أنَّ الشيء الوحيد الذي يبدو جلياً أنَّها ستخسره إذا ما تحدَّثت بوضوح هو دعم وسطاء القوة العسكريين الذين لا يزالون يسيطرون في حقيقة الأمر على ميانمار، والشيء الوحيد الذي يمكنها أن تأمل بوضوح في جنيه من صمتها هو الحصول على مزيدٍ من السلطة والنفوذ.
وتعلق الغارديان قائلة من أجل التفكير في خطوتها التالية، ربما يجدر بسو تشي النظر في نصائحها التي قدَّمتها هي للسياسيين والمستبدين من قبل، وأن تُراجع موقفها بينما لا يزال بإمكانها احتساب نفسها ضمن مجموعةٍ صغيرة من القديسين العلمانيين المعاصرين.
إذ كتبت في مقالها الذي نشرته تحت عنوان "التحرُّر من الخوف – Freedom From Fear"، الذي ربما يُمثِّل أشهر أعمالها: "ليست السلطة هي ما يُفسِد، بل الخوف. فالخوف من فقدان السلطة يُفسِد أولئك الذين يتولون مقاليدها".