لم أرَه قط؛ حتى أستطيع أن أصف ملامحه أو أتمكّن من التعمق في جوانب شخصيته وحياته التي أزعم أنها كانت زاخرة بالأحداث التي جبلت عليه، ولكني دائماً ما كنت أسترق السمع عندما كانت تتحدث عنه إحدى زميلات دراسته، أو عندما كان يتحدث عنه أحد زملاء دراسته، كانا يتحدثان عنه، وعن أخلاقه الحميدة، وعن سيرته الطيبة في وسط أساتذته، وعن تفوقه الدراسي، رغم ظروفه القاسية، وكانت هذه الأحاديث تدور وهم في سنينهم الدراسية، وكنت أصغرهم بحفنة من السنوات، لذلك كنت أنظر إلى هذا النموذج المميز بعين الإعجاب والانبهار في مراتٍ عديدة.
مرت الأيام، وعرقلتني الصدفة للحديث مع أحد زملاء دراسته في شأنه، وأشار في حديثه إلى أن صديقه قد تمكّن من دخول كلية الطب، وحصل على تقدير امتياز في الأربع سنين الأولى، ولكنه الآن يقاتل في تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا؛ لقناعاته الشخصية، أُصبت بالذهول لفترة وتلكّأت في ردّي، وسرعان ما أشرت عليه بأني مشغول ولا أريد استكمال الحديث، وفي الحقيقة لا أعلم حتى الآن ما السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف، هل لأني قد صدمت في النموذج الذي كنت دائماً أنظر إليه بعين من الانبهار والإعجاب؟ أم لأني قد تمنيت في داخلي ألا تكون هذه المعلومات حقيقية وعلى صواب؟
ورغم أني قد حاولت مراراً أن أتناسى هذا الحديث الصادم بالنسبة لي، لم أتمكن من تناسيه، بل ظل عالقاً في ذهني حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من عام على حديثي مع صديقه، حاولت بصورة صريحة ألا أكترث بحدث مثل هذا، ولكن ما جعلني أكترث وأعود لدراسة حياته، تكرار حادثة أخرى مضاهية لحالته، رغم الاختلافات الجوهرية في الحالتين؛ لأن الحالة الثانية تسرد قصة طالب في كلية الهندسة، استطاع أن يتميز عن أقرانه في أولى السنوات الدراسية في كلية الهندسة، كان حميد الأخلاق على حذو الحالة الأولى، ولكنه حدثت له تحولات راديكالية جعلته ينظر إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أنه دولة الخلافة المنتظرة كما أشار النبي (صلى الله عليه وسلم) في أحد أحاديثه
كما يزعمون ذلك، وأن الجرائم المُريعة التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هي ليست بالجرائم، ولكنها جاءت دفاعاً مستحقاً عن الدين الإسلامي، كانت هذه التحولات ترجع إلى اتصاله بأحد أعضاء تنظيم الدولة (داعش) عبر وسيلة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، وتطور الأمر إلى شغفه بالسفر إلى تنظيم الدولة الإسلامية للقتال معهم لنُصرة الدين الإسلامي، كما يزعم، ولانتشال العالم من غياهب الظلمات، وسرعان ما سعى لترتيب إجراءات سفره، ولكنه لم يستطِع السفر، بل قبض عليه بعد مشادة نشبت بينه وبين أحد الضباط في أحد الكمائن بعد سؤال الضابط له عن توجهه؛ لذلك الحالة الثانية تختلف عن الحالة الأولى
لأن الحالة الأولى نجحت في الانخراط في وسط تنظيم الدولة الإسلامية بالفعل؛ لذلك كان عليّ الرجوع مرة أخرى لدراسة حياة هذه الحالة، رجعت مرة أخرى لزملاء دراسته، أملاً في معرفة المزيد عن تفاصيل حياته، علمت من صديقه أنه كان من أسرة متواضعة للغاية، اضطرت لتزويج أخته خلال المرحلة الإعدادية لشاب يكبرها ببضع سنوات، رغم تفوقها في الدراسة، وقد يكون هذا لأسباب ذكورية كما هو معتاد في أرياف مصر، وقد يكون لأسباب ترجع إلى رغبة الأسرة في التخفيف من على كاهلها، كما أنه يعاني من بعض المشاكل الأسرية؛
نظراً للتعب الجسدي الذي لحق بوالده؛ لذلك كان عليه أن يدرس وأن يعمل في آن واحد خلال دراسته، وعلمت أنه كان ذا لحية أثناء فترة دراسته في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية، كان متديناً، عبوس الوجه، متفوقاً دراسياً ومجتهداً، مقرباً من أساتذته، وينال تعاطفهم، لا يلهو ولا يلعب كما كان يفعل أقرانه من الطلاب في هذه السن، علمت أيضاً أن والده فارقه إبان دخوله الجامعة، وأنه كان يرتاد الندوات الدينية في أماكن مختلفة بصورة مواظبة؛ لذلك تأكدت أنه انخرط في تنظيم الدولة الإسلامية عن اقتناع وليس إثر تعرّضه لعملية من عمليات تزييف العقول التي يتعرض لها الآلاف من الشباب والشابات في بقاع الأرض المختلفة.
ما زالت التساؤلات تدور في ذهني آناء الليل وأطراف النهار: هل الظروف القاسية التي مر بها كانت كفيلة بأن تبلور شخصيته وتجعله ينتمي لجماعات إرهابية ترتكب جرائم شنيعة في حق الإنسانية؟ هل الظروف العاتية التي مر بها كفيلة بأن تحوله من مشروع لملاك للرحمة إلى شخص متطرف في نظر القانون؟ هل هذا النموذج يستحق الدفاع عنه والتضامن معه إذا تم القبض عليه في يوم من الأيام؟ هل هذا النموذج يستحق أن يأخذ فرصة أخرى لمباشرة حياة طبيعية؟
أسئلة كثيرة دارت وما زالت تدور في ذهني، ولكني أتمنى أن يعود هذا الشاب إلى حياة طبيعية وكريمة، ويعود إلى الصواب النسبي الذي أعتقده، وأن يأخذ فرصة أخرى في الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.