تفخر كافة الأمم المتقدمة منها، بل والنامية، بلغتها الأم، وتعدّها جزءاً لا يتجزأ من هويتها الوطنية، وتبذل كل جهدها للحفاظ عليها إن لم يكن لتطويرها؛ لتواكب تقدم العلوم والمخترعات.
ويهجم المستعمر أول ما يهجم على لغة الأمة المُستعمرة وثقافتها المحلية؛ ليعمل على محوهما وإحلال لغة المستعمر مكانهما، وبالتالي تسهل السيطرة على الشعب المحتل، كما حدث إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر ودول المغرب العربي وغيرها من الدول الإفريقية، كما أن الشعوب التي لديها (القابلية للاستعمار) -كما يقول المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة- هي التي تنبهر بلغة المستعمر وسلوكياته وتقوم بتقليده تقليداً أعمى.
ويمكنني أن أقول: إن الإنسان يرضع حب الوطن مع تعلّمه للغة في سنوات عمره الأولى، ولا يمكن لمن رضع حب الوطن مع حب اللغة في سنوات عمره الأولى أن يفكر مجرد تفكير في خيانة وطنه.
وبينما نقوم بتدريس اللغات الأجنبية في سن الروضة وقبل أن يجيد الطفل لغته الأم، فإن كافة الدول الأوروبية تحظر تعليم أي لغة أجنبية قبل سن الثامنة أو التاسعة على الأقل، بل ويمتد ذلك الحظر في إنكلترا؛ ليصل حتى سن الحادية عشرة حفاظاً على لغتهم الأم وعدم إرباك مدارك الطفل وفهمه.
وقد انتشرت هذه الآفة في مصر في العقود الماضية بعد إقرار سياسة الانفتاح الاقتصادي، حتى استفحل أمرها، وانتشرت ظاهرة تعليم الأطفال اللغات الأجنبية قبل أن يتعلموا اللغة العربية، مما خلق أجيالاً كاملة ممن لا يجيدون اللغة العربية، بل إن أغلبهم لا يجيد اللغة الأجنبية التي ظل يدرسها منذ نعومة أظافره، وذلك نتيجة للارتباك الفكري بين لغة الحديث في المدرسة والمنزل ولغة الصحف ووسائل الإعلام، وما يتعلمه من لغة لا تمت لثقافته بِصِلة.
ونقوم نحن بطمس هويتهم وولائهم للوطن بهذه العملية التخريبية -وتكون النتيجة عدم تعلم اللغتين في أكثر الأحوال- والتأثير الأكثر خطورة في هوية وولاء هؤلاء الأطفال لوطنهم وغرس قيم وأفكار لا تتناسب مع مجتمعاتنا في أذهانهم.
ويقول علماء النفس: إن الإنسان يفكر باللغة التي يتقنها، ولذا فإننا ندمر أفكار الأطفال بتعليمهم لغة أجنبية في السنوات الأولى من أعمارهم.
كما أن ضعف الطلاب في اللغة العربية هو سبب مهم من أسباب تفشّي الدروس الخصوصية؛ لأن الطالب الذي يجيد قراءة وفهم اللغة العربية، يمكنه قراءة وفهم الدروس سواء من الكتاب المدرسي أو الكتاب الخارجي ولن يحتاج إلى دروس خصوصية، وبصفة خاصة في المواد التي يتم تدريسها باللغة العربية.
ولذا فإنني أعتقد أن أول سلاح لمحاربة الدروس الخصوصية يكمن في تكثيف تدريس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، والاقتصار على تدريس كافة المناهج الدراسية بها، على أن تكون بطريقة جذابة تعتمد على القصص وموضوعات الفهم، وبدون المبالغة في الإكثار من دروس النحو بصفة خاصة، وبحيث لا تقل نسبة درجات اللغة العربية في المجموع الكلي عن 80% في السنوات الثلاث الأولى، 70% في السنة الرابعة والخامسة، و60% في السنة السادسة والأخيرة، وإن كان تقدير ذلك بصفة دقيقة يجب أن يكون مرجعه للخبراء في التعليم وعلم النفس التربوي.
كما يجب حظر تدريس أي لغة أجنبية للطالب سواء في مرحلة الروضة أو المرحلة الابتدائية حظراً باتاً، وألا تكون هناك أية استثناءات لكافة المصريين في هذا الصدد حتى لا يتم فتح باب التحايل عليها بأي ذريعة من ذوي الأحاسيس الدونية.
ولا بأس في أن نشير إلى أن الأفذاذ من علماء مصر وكُتابها الكبار هم نتاج نظام التعليم القديم الذي كان يقوم بالتركيز على تعليم اللغة العربية في التعليم الابتدائي، ثم يبدأ تعليم اللغات الأجنبية من المرحلة الإعدادية ثم الثانوية بعد أن يكون قد أجاد لغته الأم إجادة تامة، ولم يكن أحدهم نتاج التعليم الخاص الذي ينتشر كتجارة رابحة في العصر الحالي.
ولا يغيب عن أذهاننا أن الأفذاذ من أبناء وطننا وحائزي جوائز نوبل لم يكونوا من خريجي مدارس اللغات أو المدارس الخاصة، مثل د. أحمد زويل، ونجيب محفوظ وكافة عمالقة الأطباء والمهندسين وغيرهم مثل د. فاروق الباز ود. مصطفى السيد، وباقي الأسماء المرموقة اللامعة في كافة المجالات الذين كانوا نتاج التعليم قبل عام 1973 قبل إقرار سياسة الانفتاح الاقتصادي، ولم يعرفوا الدروس الخصوصية في حياتهم التعليمية.
وعلى نفس المنوال انتشرت ظاهرة إطلاق أسماء أجنبية على المحلات التجارية والشركات المصرية التي تقوم ببيع منتجاتها للمصريين في ظاهرة مخجلة لا تعليل لها، بل وتجد إعلانات تجارية بأكملها باللغة الإنكليزية وكأنها تخاطب أجانب، أو تقوم بمخاطبة فئة خاصة.
ومن المفارقات المدهشة أن تجد أسماء بعض هذه المحلات خليطاً مضحكاً لا معنى له من اللغتين العربية والإنكليزية (فتح الله جملة ماركت، بيوتي سنتر للمحجبات..).
وتكتمل المأساة ويبدو الأمر مثيراً للخجل عندما يقوم التليفزيون المصري العربي بإطلاق مسميات أجنبية على قنواته من عينة: "نايل سبورت، ونايل كوميدي، ودريم، ودريم سبورت.."، وكلها قنوات ناطقة باللغة العربية والمفروض أنها موجهة إلينا نحن المصريين.
وقد كتب الكثيرون عن انتشار هذه الظاهرة المؤسفة بعد حقبة الانفتاح الاقتصادي، ومنهم على ما أذكر الراحل الكبير رجاء النقاش الذي كتب في مفكرته بجريدة الأهرام منتقداً استخدام أحد كبار الكُتاب لكلمة أجنبية لها بديل واضح وأجمل باللغة العربية.
كما أن الصحف المحلية تساهم في شيوع هذه الجريمة الشنعاء عندما تقوم بإطلاق اسم (ألتراس) على روابط المشجعين في أندية كرة القدم، وباقي مصطلحات كرة القدم، وهكذا تنضم الصحف اليومية إلى القنوات التليفزيونية التي تطلق مسميات مثل "آراب آيدول" على مسابقة حمقاء ومستوردة من المجتمع الغربي، بدلاً من "معشوق العرب" أو "نجم العرب"، في المحاولات الحثيثة التي تجري على قدم وساق لهدم اللغة العربية.
ولا بد أن نتدارك الأمر قبل أن تموت لغة القرآن وتتحول إلى لغة للتراث والمتاحف، يقتصر استخدامها في العبادة، هذا إذا نجت العبادة من هذه الهجمة الشرسة.
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى جهود مكثفة من وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام، والكيانات الثقافية، مثل: المجمع اللغوي، واتحاد الكتاب، ثم قرار سيادي يتم تنفيذه بكل حسم من أجل إيقاف الظواهر المؤسفة للتسميات الأجنبية للمنشآت، ولوحات الإعلانات المكتوبة باللغة الأجنبية في مدينة القاهرة بالذات، وكأنها تخاطب الشعبين الإنكليزي أو الأميركي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.