بعيد

في الماضي.. لم تكُن لتنتظر أن تتسرب ذرات المطر إلى داخل غرفتها.. كانت تتسرب هي إلى شُرفتها لتنظر إلى السماء، تُخرج يديها في سعادة، تدّعي كثيراً.. تبتسم.. تعبث بقطرات المطر المُتساقطة في طفولة، لم تؤمن يوماً بأن المطر مجرد ماء عادي!

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/07 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/07 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش

لا بد أن الشتاء سيكون قاسياً هذا العام.. ما زلنا في بدايته وكادت ذرات المطر أن تكسر الزجاج.

لم تكُن هكذا تستقبله.. كانت تحُب الشتاء كثيراً.
في الماضي.. لم تكُن تعبأ أتكسرُ ذرات المطر الشديدة زجاج نافذتها أم لا.

في الماضي.. لم تكُن لتنتظر أن تتسرب ذرات المطر إلى داخل غرفتها.. كانت تتسرب هي إلى شُرفتها لتنظر إلى السماء، تُخرج يديها في سعادة، تدّعي كثيراً.. تبتسم.. تعبث بقطرات المطر المُتساقطة في طفولة، لم تؤمن يوماً بأن المطر مجرد ماء عادي!

"فيه شيء ما غريب لا أفهمه، أحب أن يلامس جسدي ماء المطر؛ ليُطهر جسدي وروحي معاً من أى شر، يقترب منّي أو أقترب منه".

سألها ذات مرة: "لماذا تصمتين هكذا عندما ينزل المطر؟!"، قالت: "أستقبل رسالة الله إليّ، وأبعث إليه برسالتي، أعلم أن المطر لن يُضيعها".

"سأذهب بَعيداً"، قالتها ومَضت ولم تَعُد!

هُناك في بيت عَتيق بَعيد، على أطراف المَدينة، ذات طابق واحد وحديقة صغيرة، وشُرفة لا تُطل على أحد.
بَعيداً عن الناس.. عن الضوضاء.. عن كُل شيء.

من الداخل.. يَبدو بيتاً جَميلاً، صَغيراً، كَبيراً عليها فقط، مُنمقاً للغاية، لم تطأه قدم قط، يُهيأ إليك في البداية أنه ورشة لأحد الرسامين، اختلط أثاث بيتها الصغير بلوحاتِ زيتية وبعض من أدوات الرسم والألوان خاصتِها، ربما كان الرسم هو الشيء الوَحيد الذي احتفظت به من الماضي.

كانت لوحاتها هُن صَديقاتها الوَفيات، تماماً مثل ورداتها اللاتي يملأن حديقتها الصغيرة، ومَثل صوت فَيروز..
"بي تَشعر بي.. أُرسل إليها خطابات.. وتوصف حالتي في أغانيها".

لا أحد يهرب من الماضي، لا أحد يستطيع مَحو ذاكرة الزَمن!
– "أنا فعلت.. هربت من الماضي ومن الحاضر أيضاً، تركت كُل شيء، ولا أريد المزيد في المستقبل".

في أحد أركان غُرفتها تَقطن بضع وردات ذات ألوان مختلفة.. أحمر.. وَردي.. وأرجواني.. يُحيط بهما بعض من الورق الأخضر.. ذبُلت جَميعها حتى إنك لن تستطيع تحديد الألوان، مُغلفة بغلاف سميك، أو هكذا كان يبدو، لم يتأثر كثيراً، غير أن لونه تَغير وبَالت أطرافه، تَغيرت كثيراً تلك الباقة، لكنها ما زالت تراها كأول مرة شاهدتها، ما زالت تَستطيع تحديد ألوانها، وشكل كل وردة ومكانها، وعدد الوردات الحمراء، والوردية والأرجوانية، ما زالت تَشم رائحتها، وفي كل مرة تقع عيناها عليها يزورها ذلك الشعور الذي انتابها عندما قَدمها لها في المرة الأولى.

على حائط غُرفتها، صور كثيرة لأُناس تختلف أعمارهم، وراء كُل صورة منهم حكاية ما، تعرفها هي فقط وتَعرفهم.

داخل أدراج مَكتبها الكبير تجد أشياء كثيرة، من زمَن بَعيد.. قَريب.

دفاتر قديمة، كانت تُدون بها أشياء مُهمة، وأشياء تافهة.. حكايات.. وقصص.. ومَشاعر كَانت تبوح بها لورقة وقلم.
ساعات يَد قديمة.. أو أجزاء منها..
زُجاجات عِطر فارغة.. ما زالت تُشع منها رائحة شيء ما.. كروت تهنئة لمناسبات مُختلفة.

"لا أعرف لماذا جَلبت تلك الأشياء مَعي، رُبما أحب أن أزورها من وَقت إلى آخر، أشعر أحياناً بالتناقض، هربت من الماضي وجلبته معي".

لا أحد يَستطيع الهروب من الماضي.

الوحدة قَاسية..
"الوحدة ليست قاسية كما تَعتقدون.. الفُراق قاسٍ".

ستحتاجين يوماً إلى أحد..
"أعلم ذلك.. ولكنّي سأحتاج الله أكثر من أي أحد..".

أسعيدة أنتِ؟!
"نعم.. جداً".

ألا تُريدين العودة؟ ألا تشتاقين لَهم؟

"كَثيراً.. وأعلم أن بيننا لقاء قريباً، أو بَعيداً سيأتي، وعندها لن يكون فراقاً".

لماذا ابتعدتِ؟
لا أُريد المَزيد من الفراق.. من الوَجع.. من الخَيبات.
"تَركتُ الأشياء قبل أن تتركني".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد