عِندما تنقطِع هذه الوَصلة العَجيبة المُسماة (الإنترنت) التي تربطُ بيننا وبَين العَالمِ الخارِجي، نظنُ أنه ليس بإمكانِنا أن نُمارِسَ شيئاً بشكلٍ عادي، وكأن (الإنترنت) لم يوجَد من الأساس! ولكِننا نظلُ نوجّه التفكير نَحو الأشياءِ التي كُنا نريد فِعلها إذا كان موجوداً، ونَنسى تماماً ما باستِطاعتنا فعلهُ في غيابِ هذه الوَصلة.
هذا ما حدث مَعي الأسبوع المَاضي؛ حيثُ انقطعت الوَصلة العَجيبة عن بيتِنا لمدّة تزيدُ عن عشرة أيام، ولم يكن هذا وحده، بل أيضاً حدث عُطلٌ في جِهاز التّلفاز، وبات المَنزِلُ بلا وسيلة ترفيهية إلكترونية مما اعتدنا عليه مِن قَبل، وزادَ كليهِما انقِطاعُ الماء عَن المِنطقة بأكملِها لأكثر مِن يَومين، وكأن الزّمان يعودُ إلى الوَراء تدريجياً؛ يُنبهك أن تتأقلَم مَهما كانتِ الأمور؛ لأن كُل شيء مآله إلى الزّوالِ لا رَيب.
ضمّت هذه الأيام أحداثاً كثيرة مُهمة في هذه الفَترة من حياتي، وكانت تتطلبُ -بِلا شَك- هذه الوَصلة العَجيبة بِشدة، وبانقِطاعها أتاحت لي أن أُبدِل هذه الوَصلة بِعقلي؛ أملاً في النّجاة ومُجاراة الأمور؛ حتّى يمرُّ كل شيء بِسلام.
السّاعة الحَادية عَشرة -التي أخطُّ فيها هذهِ الكلِمات- مساء يوم الإثنين، خرجتُ ولأولِ مرة مُنذ وقتٍ طويل إلى ذلِك الفضاء في بيتِنا، ليست بشُرفة، ولا حتى بجزء من المَنزلِ نفسهُ، هي باحة مُنفصِلة كَبيرة جِداً، تطلُّ على فضاءٍ شاسِع وسماءٍ ويابِس، دائِماً ما كُنت أتساءل: لِم ينظُرُ الناس إلى أسفلِ دوماً؟ لمَ لا ينظرون إلى أعلى حَيثُ يتجلى الجَمالُ كُله؟ لِم يشغلُهمُ الناسُ عن الزُّرقة والتأمُّل؟ ولكني ليلتُها نظرتُ إلى أسفل؛ مُحاوِلةً أن أقطِف عِبرةً مِن هذا النّظر.
هذا إنسانٌ يسيرُ على الأرض، يظنُّ أنه سيبلغُ الجِبالَ طولاً، يريدُ أبداً أن يشعُر أنهُ موجود، وإذا تحدّث وجَلجلت حَنجرته فَهو سيدُ الأرضِ ومَن عَليها، يبطِش ليوهِم نفسَه أن السّلطة هو، ولا أحد مِن بني آدم -أمثاله- قادرٌ على أن يتنزِعها فيُهدد بقاءَه على الأرض، هذا إنسانُ يُريدُ الأرض، حينما فكّر أخذهُ تفكيرهُ أن يُشيد مبنًى آخر أمام المبنى الذي نسكُن فيه، آخر زائِدٌ على إخوته، لا يضرُّ ولا ينفَع، قائِمٌ ما شاء اللهُ -تعالى- له أن يُقيم، جُلّ خطيئته أن حجب عنّي جُزءاً مِن السّماءِ كان يطلُّ عليّ منه قمرٌ ذهبيٌ في أيامٍ مَضت، بيننا حكايَا ومَواويل، فجاء هذا البِناء وحَجب الحكايا والسّمر والحُب.
البنايات والشقق مُهمة بالطبع ولا أخوضُ في هذا الأمر، فقط إذا كان يسكُنها بشر، لكننا -وفي شارِعنا خاصة- توجد أكثر مِن عشر بِنايات بها العديدُ من الشقق الفارِهة الفارِغة، إذا لمن هذا الفراغ كُله إذا لم يوجَد بَشر؟ أصنعتموهَا للعفاريت؟! حسناً رُبما، هذا إذاً سيجعَلني أُفكر كثيراً قَبل أن أستعمِل السُّلم لأسفل مرة أُخرى، فرُبما أًقابِل عِفريتاً جارنا ممن يسكنون بالأسفل، فبنايتنا أيضاً تضمّ العديد من هذا النوعِ من الشقق – شُقق العفاريت.
كم يبدو هذا الإنسان صغيراً جداً من الأعلى! وإذا حادثك فهو يظنُّ نفسه شيئاً مُهماً ذا قَدر، قام الإنسانُ ببناءِ هذه البِنايات ولا يعرِف أنها ضَخمة كَبيرة بإمكانِها أن تسقُط عليهِ يوماً ما فتُبيدُه وأمثاله في غَمضة عَين، فإن كان يوماً قد تكابر على إنسانٍ مِثلهُ، وهيأت لهُ الحياة أنهُ سيدٌ على عَبدٍ أضعَف، فها هي بِناية جامِدة صامِدة خالية مِن الحياة، لا تتحدّث ولا تفهَم ولا تبغي مكانة في الأرضِ، انهالت عَلية فساوتهُ بالتُّراب، كأنه لم يوجَد مِن الأصل، غريبٌ هو الإنسان يصنع ما يُهلكه!
هو أيضاً من أدخَل أنابيب الغَاز إلى المكان الذي ينامُ فيه ويأكُل، وهي قادرة في لحظةٍ ما أن تودِي بهِ ومَن على الأرضِ جميعاً، ففي كُل لحظةٍ يُهدَّد الإنسانُ بالرّحيل لأسبابٍ لا يعرِفُ حكمَتَها إلا الله العلي الجبّار، فلا تنفعهُ كلمةٌ أخرجها في ساعةِ غَضب، ولا يد ألقى بِها بطشاً بإنسانٍ آخر، ولا مشيةٌ باختيالٍ على الخَلق، ولا هِندامٌ جديد ولا زينة ولا شيء.
الخَيارُ لكَ أن تنظُر إلى الأعلى أو الأسفل، لكنّ الأمر يرتكِز في نيّتك من النّظر، هل ستنظُر وتتأمّل، أم أنّك تعبرُ الأشياء كمرِّ السّحاب؟ ففي هذه الليلة صَغرت في عَيني أمورٌ ظننتُها كَبيرة، وكَبرت في عَيني أمورٌ أُخرى.
تقِفُ بعيدة في آخرِ زاوية تطلُّ على الأزرقِ واليَابِس، تسنِدُ رأسها عَلى جِدار صَلب لا حَياةَ فيه، كادت أن تستدير لولا أن لَمحتْ أخضر يخرجُ من أسفلِ السّور، جَلست القرفصاء وراحت تتأمّل هذه السّنابِل الحَييّة التي خَرجت مِن هذا المَكان، خمسُ سنابل خَضراء تسرُّ النّاظِر، انبثقَت مِن اليابِس الصّلب تُريد الحياة، وهَا هي أرست فروعَها في بَيتِنا المتواضِع، ونرجو أن نكون ضيفاً خفيفاً عَليها.
خلق الله -تعالى- لَنا عينين، ننظرُ بهِما على اتّساعِ ما أراد اللهُ لنا ذلِك، نُعظِّمُ أموراً ونحقِر أُخرى، أذكرُ أننا كُنا ندرُس في بلاغياتِ العَربية أنَّ التَّصغير مِن شأنه التّحقير، ولكنّي أعتقِد أنَّ هُناك أموراً صغيرة تُخرِج لنا عِبراً كَثيرة، وأنَّ الصِّغر في ذاتهِ صغرُ العينين التي لا تُبصر بحقٍ، والقلبُ الذي لا يعي ما حَوله جيداً.
أخذت تُهرول إلى داخِل المَنزِل وتهتِف: أُمي.. في بَيتِنا حَديقة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.