لم تعد تلك الرئة الثالثة التي يمتلكها "بوسكيتس" قادرةً على استنشاق هواء التوازن بشكل جيد، وأقلام "إنيستا" قد شارفت على الجفاف، ولوحات "نيمار" الجميلة ذات يوم ستنقرض، صرامة "بيكيه" بدأت بالاندثار، ورشاقة "ألبا" اهترأت، و"ألفيس" خرج من الباب الضيق؛ ليبقى رجل واحد على المستطيل الأخضر هو مَن يعاني الأمرّين من أجل إرجاع البرسا إلى أيام فلسفة "بيب"، ولطالما كان "ميسي" رجل المباريات وتكتب عنه الصحف في الصباح ما لذَّ وطاب من العناوين التي تجذب عشاق الساحرة المستديرة؛ ليأتي شاب لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره ويوجه انتقادات لاذعة اتجاه ميسي مدعياً أنه لا يجيد حتى الكلام مع الصحفيين. وبعدها أصمت طويلاً لأنني أحس بندم شديد جراء ما قلته؛ حيث إن الجميع يؤكد أن ميسي أعجوبة العصر، وأنا الوحيد الذي أقر بأن ميسي ليس سوى متطفل على كرة القدم.
ليونيل ميسي، أو البرغوث الأرجنتيني، صاحب خمس كرات ذهبية، دائماً وأبداً يتقمص دور البطولة في جلّ المباريات، يصنع أهدافاً، يسجل أروع الأهداف التي خلّدها وسيخلدها التاريخ. بشرته ذات طابع لاتيني، لحية جميلة، وشم يغطي جسمه، شعر ناعم، قدم يسرى تبحث عن طريق الشباك. سجل أهدافاً جميلة وقد نظمت بيتاً شعرياً استوحيته من قصيدة المتنبي "الليل والخيل والبيداء تعرفني…"، أقول في مطلع ذلك البيت:
أنا الذي نظر العاشق إلى قدمي ** وأطربت مراوغاتي مَن به صمم
أنا ميسي كبيرهم على صغري ** أنا عارض المتعة في عالم القدم
كلمه يا أبا طيب، أين أنتم يا شعراء الجاهلية، هاتوا لغتكم الجميلة، انظموا القصائد على ابن التانغو. سمّوه كما شئتم، أينشتاين كرة القدم، موسيقار الملاعب. سألته من أين لك هذا؟ قال: ربّاني، من أين لك هذا العدد من الأهداف؟ قال: هو جينات. بلغة الشعر أنت القافية، بلغة الغناء أنت موال، بلغة القضاة أنت مجرم، بلغة السياسة أنت لغم قابل للانفجار. سألته: متى ستتوقف؟ قال: إجابتي ستكون بعد الثلاثين، سكت، ثم أجهشت بالبكاء، منك لله يا ميسي.
لقد كان معاقاً، وها هو الآن قد أعاق الدنيا. ولكنه لم يستطِع أن يحقق أي لقب دولي رفقة راقصي التانغو (الأرجنتين)، في نهائي 2014، صفقت "أنجيلا ميركل" العروس احتفالاً وابتهاجاً بنصر الألمان، وحينها ميسي طأطأ رأسه حسرةً وخيبةً، وكتبت لألمانيا نجمة رابعة وللأرجنتين نجمة ضائعة، فكانت دموع الخسارة عنوان ميسي في النهائي.
لطالما عاقب المدافعين والحراس، عذب المدربين لأنهم جربوا جميع الخطط لإيقافه ولكن دون جدوى، دهاؤه يضاهي دهاء الثعلب، موهبته ربانية، قدماه من كوكب آخر، نظراته حادة وعينان محملقتان، وجهه جميل وشارب كث. أينما حلّ وارتحل إلا وتعاني معه الأندية.
ففي شتاء 2017، واجه مدربه السابق "بيب غوارديولا"، فأجهش عليه ميسي بثلاثية شخصية تاريخية، فانطبق عليه ذلك البيت الشعري الشهير:
كم علمته تسجيل الأهداف ** ولما اشتدت قدماه رماني بثلاثية
حينها عض غوارديولا أصابعه ندماً، ندم على مواجهة ميسي.
إن ليونيل ميسي قد بكى بحرقة كبيرة على ضياع كأس "كوبا أميركا" سنة 2015، وقرر الاعتزال، وبعد شد وجذب عاد للمنتخب ليرسم بقدميه معالم منتخب جديد، سيكتب تاريخاً جديداً في مونديال روسيا 2018، كإعادة لأمجاد "مارادونا" بالمكسيك عام 1986.
رغم كل هذا، فقد كان ميسي هو الحصان الأسود لجميع الأندية الأوروبية، أنزل دموع الجماهير واللاعبين، مع ذلك فإن رائحة الإنسانية تفوح من بين ضلوعه أملاً، ولكن بعد أعوام قليلة سيلتحق بسابقيه وسيصبح عالة على كرة القدم، وسيصير كهلاً، رأسه اشتد شيباً؛ ليتحول بعدها إلى أكذوبة العصر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.