عن الأطفال واستيعاب اللغة

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/05 الساعة 06:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/06 الساعة 11:14 بتوقيت غرينتش

مرة كنت أدرس شيئاً عن "الأطفال واستيعاب اللغة" وهو من أعجب الأمور وأشدّها غرابة والدراسات حوله لا تنتهي.

المهم كانت توجد نظرية عن "القوالب اللغوية" ترى أن الطفل يستوعب اللغة كقوالب حتى سن الرابعة من عمره وبعدها تتكون لديه الملكة اللغوية للغته الأم ويبدأ مرحلة القياس والإبداع اللغوي بها.

ولذا لا ينبغي تعليم الطفل أي لغة أجنبية حتى هذه السن التي ينبغي تخصيصه للغة الأم، وذلك حتى لا يعاني الطفل أي اضطرابات لغوية فيما بعد.

وهذه السن تحديداً تبدو لي عجيبة بالفعل؛ لأنها مرصودة عند كثير من اتجاهات العلوم الإنسانية المتنوعة.

يقال مثلاً إن طفل الإنسان يظل متخلفاً في أشياء كثيرة عن طفل الحيوان حتى هذه السن، وفجأة تحدث الطفرة أو القفزة التي تجعل الإنسان إنساناً فيصبح مخ طفل الإنسان أكبر مساحة من مخ أي حيوان آخر على الأرض.

وكان فرويد يرى أن هذه السن هي السن التي يبدأ فيها الطفل تكوين ما يسمى بالضمير ومعرفة الخير والشر، أما قبل ذلك فهو كما يقول المثل: "لا يعرف الجمرة من الحمرة"!

وفي العلوم التربوية ينصح بأن يعيش الطفل حتى هذه السن في أسرة طبيعية كي يكون إنساناً سوياً؛ لأن أكثر الأمراض النفسية، والنوازع الإجرامية، تعود جذورها إلى هذه المرحلة العمرية إذا كانت غير سوية بالطبع.

ويوجد كلام آخر كثير كنت أظنه نظرياً وغير واقعي، حتى إذا كنت في زيارة لصديق قديم كان معه ابنه الصغير، وكان لم يكمل الرابعة من عمره بعد، وعندما رأى الطفل "كاميرا" في يدي لم يكن يعرف اسمها الغربي (عربي الأصل) فما كان منه إلا أن أشار للكاميرا وقال "صوّارة".

وهذا كما ترى حادث صغير ولا ريب، ولكنه فتح لي طاقة نور على سيل من الأسئلة متواصل! فمن أين عرف هذا الطفل الصغير أن "أسماء الآلة" في اللغة العربية تأتي على أوزان أشهرها وزن (فعّالة)، فإذا كانت الآلة تغسل فهي (غسّالة)، وإذا كانت تعصر فهي (عصّارة)، وإذا كانت تشوي فهي (شوّاية)، وإذا كانت تفرم فهي (فرّامة)، وإذا كانت تثلج فيه (ثلّاجة). لا بد إذن وأنه قالب لغوي، وأنه انطبع لديه في هذه الفترة المبكرة، وأنه بدأ يستخدمه في ابتكار أسماء جديدة لما لا يعرف من الآلات.

فهو على صغر سنه مثل مجمع لغوي متنقل يبتكر الأسماء والمصطلحات ويدخلها في التداول اللغوي وهي وحظها "يا عاشت يا ماتت"! لكن الغريب أن هناك أوزاناً أخرى قياسية لاسم الآلة في اللغة العربية فلماذا اختار هذا الوزن تحديداً دون سواه؟!

لماذا ترك وزن (مِفعال) ومنه (منشار ومفتاح ومصباح) ووزن (مِفعل) ومنه (مدفع ومضرب ومجهر) ووزن (مفعلة) ومنه (مكنسة ومطرقة ومنجلة)؟ معنى هذا ببساطة أنه في لحظة رؤية "الكاميرا" وازن بين الأوزان المختلفة لاسم الآلة في اللغة العربية ورأى بسليقته وذائقته اللغوية أن استخدم وزن (فعّالة) دون غيره هو الأليق بهذه الآلة التي تصور!

وهذه القدرة أو المَلَكَة تحديداً هي ميزة كل مَن يتحدث لغته الأم! فكيف فعل كل هذا وهو في هذه السن المبكرة؟ كيف تعمل هذه الملكة لديه؟ تلك هي المشكلة التي حار فيها العلماء ودارسو اللغات!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد