قد قالوا نصف الحقيقة وهو نصف نصفه باطل، قالوا احذروا لحوم العلماء فإن لحومهم مسمومة، وهذا كلام في ظاهره حق كله، وفي باطنه نصفه باطل، فهو بمثابة لجام يملكه الأتباع ليضعوه على أفواه مخالفيهم ممن يتكلم في علمائهم بحق أو بباطل، وإن كنت على حق في نظر الله ونظر عالم آخر، فإنك على باطل ما دمت تخالف التصور الذي وضعه الأتباع على شيخهم من رفعه إلى مقام العصمة، أي أن شيخنا لا يمكنك حتى مجرد أن تفكر أو أن تعتقد أنه لم يوفق في موضوع كذا، بحيث إنك إذا خطّأت عالماً أمام أتباعه بدليل عالم آخر معتبر دون أن تعزو الدليل إلى صاحبه، فأوهمت الأتباع بأنه من كلامك، فإن عليك أن تعد نفسك للعنة، وأقل ما يمكن أن تسمع هو "لحوم العلماء مسمومة".
وهذه العبارة هي بمثابة سيف ذي حدين: فحدّ يعترف بأنه حق بحكم أن الطعن في العلماء وسبهم واغتيابهم والاستهزاء بهم حرام لا بحكم عالميتهم بل بحكم إسلامهم من جهة الطعن والغيبة، وبحكم إنسانيتهم من جهة الاستهزاء والسب والتنقيص، وهذا حرام لكون الإنسان إنساناً لا لكون المسلم مسلماً، والإنسانية أعم من الإسلام في هذا الباب،
وحدّ لا يشك البتة بأنه باطل وهو ما يفلقك به مَن إذا ناقشته في مسألة يرى فيها شيخه أنها (أ) وفهم من كلامك أن تطعن في رأي شيخه بقولك إنها (ب) وليست (أ)، فإن مخالفك يلقي إليك بالعبارة الشهيرة ليحاول تكميم فيك، كونك في نظره قد طعنت في شيخه من خلال القول بخلاف قوله وهو قول عالم آخر، وكأن ما قال به شيخه هو بمثابة كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي الحقيقة هو كلام بشر لا يعد إنكار رأيه تنقيصاً من علمه حتى يعد التنقيص من علمه طعناً فيه، وبالتالي يمكن اعتباره بعد ذلك أكلاً للحم مسموم، إذ كل ما في الأمر أن ما قد أخطأ فيه شيخه قد تم بيانه بالأدلة، والخطأ أمر ملازم لطبيعة العقل البشري، فالله تبارك وتعالى يقول: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".
من هنا يتبين أن عبارة السلف ليست كما عهدناها وليست كما فهمونا إياها، بل هي عبارة تعتريها الحالتان، حالة الحق وحالة الباطل، فكم من مرة توهمناها حقاً وقد أريد بها باطل، حتى أصبح البعض منا يخشى أن يزيد كلمة واحدة أثناء النقاش بمجرد صفعه بهذه العبارة التي ضلل بها ضلالاً كبيراً وجهل بها تجهيلاً مبيناً حتى صار كركوزاً بيد سيد الكراكيز لا يميز بين حق وباطل.
ومما يثير التساؤل في مقامنا هذا وهو ألا ترون معي أن هذه العبارة "لحوم العلماء مسمومة" التي يرفعها كثيراً مَن هم مِن أهل السنة والجماعة العوام منهم عامة وطلبة العلم خاصة؛ ليمنعوا بها كل مَن يشم منه رائحة محاولته لإبطال رأي أحد علماء أهل السنة برأي من نفس الدائرة، أو محاولته لإبراز موقف غير مشرف وقفه أحد علمائنا من خلال بيان قول عالم آخر من علمائنا يظهر فيه بالدليل أن موقف الأول هو حقاً غير مشرف، وليس شيئاً من هذا مما يعاتب عليه أو يستنكر إلا إذا كنا نعتقد بأن العالم الفلاني يستحيل عقلاً أن نصف أحد مواقفه بأنها كانت غير مشرفة،
وهذا هو ما يثير التساؤل وهو ما أردت أن ألفت انتباهك أيها القارئ إليه، وهو إذا كان البعض يعتقد أن العالم الفلاني وهو شيخي الذي فنيت فيه عمري ولا أرى غيره أفضل منه في العلم لا يمكن لأحد أياً كان أن يقول بأنه أخطأ في كذا مسألة أو لم يشرفنا في كذا موقف، أفلا يمكن اعتبار هذا الاعتقاد الذي يعتقده مثل هؤلاء هو شبيه باعتقاد الشيعة في عصمة أئمتهم، وأنه لا يحق لأحد تخطئة بعض آرائهم أو وصف أحد مواقفهم بالبطلان والغلط، لعَيني إن هذا تشابه حقيقي، وهو طعن الآخر بشيء هو مغلغل فيك، وهو عين ما جاء في صحيح ابن حبان وصححه الإمام الألباني من حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه: "يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!"، وقد قال به عيسى عليه السلام قبله: "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" (إنجيل لوقا).
فهذا التناقض الذي يعيشه البعض منا ليس بالغريب، وما لأحد الحق في أن يقول بأن مثل هذا الصنف غير موجود بل هو موجود، بل إن جزءاً منه موجود في كثير منا؛ إذ لا يرقى إلى مستوى نستوي من خلاله مع هؤلاء المعصمة الذين أنكروا ما يقولون وكذبوا ما به يصدقون.
إن القول بسمية لحم العلماء لا يجوز الوقوف عنده أو رفعه على حساب النصف الآخر.
والحقيقة الأخرى وهي لحوم العوام الذين ليس لهم اعتبار ولا قيمة في نظر البعض، حتى قالوا: "إن العوام هوام"، أي مثلهم مثل الحيوان، قل فيهم ما تشاء، فالحيوان مهما سببته أو طعنت فيه أو اغتبته فإنه يبقى حيواناً ولا شيء عليك.
في حين أن العوام مثلهم مثل العلماء، ففي الوقت الذي يحرم فيه سبّ العلماء يحرم فيه سب العوام، وفي الوقت الذي يحرم في التنقيص من العلماء يحرم فيه التنقيص من العوام وهكذا دواليك، فلا فرق بين العلماء والجهلاء، والخواص والعوام في الطعن والتنقيص والسب والاستهزاء والغيبة والتحقير؛ لذلك نجد أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحرم هذه الأمور باعتبار العلم أو الدين وإنما باعتبار الإنسانية والإسلام، فسبّ الإنسان أو تعييبه والاستهزاء به حرام بغض النظر عما يدين به، وغيبة المسلم حرام بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلاً، فالمسلم كما قال عليه السلام: "على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
وإني لا أستغرب بحكم التعود أن أجد مَن هو كثير التلفظ بالقولة موضوع النقاش يطعن في علماء غير علمائه ويصفهم بالنقص ويطعن في علمهم كونهم لا يتفقون مع من هو متمسك بآرائهم، وكأنه قد نسي ما قد ألف رفعه من شعار مفاده أن لحوم العلماء مسمومة ويحرم الكلام في كل ما يتعلق بهم، أو تجده يسبح بإتقان في بحر الغيبة من خلال اغتيابه لأستاذه أمام باب الجامعة بعد انتهاء الدرس، ويتلذذ بأكل لحمه الذي يعد عسلاً، كل هذا فقط لأنه يرى في هذه المسألة وتلك خلاف ما يراه هو، ويا ليته وقف عند الطعن في علمه، بل إنه ينتقل من الطعن في علمه إلى الطعن في عين الأستاذ نفسه، ممن هو معتبر بعلمه أو غير معتبر بعلمه وخلقه.
في الختام أدعو هؤلاء إلى أن لا ينهجوا النهج الشيطاني، كي لا يصل بهم الحال إلى ما وصل إليه بعضهم من أنهم يغتابون من شاءوا ممن لا يوافق فكرهم بكل أريحية، وما ذلك إلا لأنهم يبحثون في اغتيابهم لفلان عن موضع من المواضع التي تجوز فيها الغيبة فيضعون فيها اغتيابهم، حتى إذا اطمأنوا بأن غيبتهم شرعية محضة استمروا في اغتيابهم لمن أحبوا ومع مَن أحبوا وفي أي وقت أحبوا، فمثل هؤلاء يحتاجون وبشكل استعجالي إلى أن يعيدوا النظر في طريقة تفكيرهم وإيمانهم حتى يلقوا الله بقلوب سليمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.