حروف من ذهب

في إحدى تلك الليالي الرمضانية المباركة وقف المصلون كالبنيان المرصوص في خشوع وورع يستمعون إلى كلام الله عز وجل مغذياً أرواحهم بالإيمان وتقوى الله، ويقشعر أبدانهم وينير عقولهم صادراً من ذلك الإمام ذي الصوت الرنان البديع، لقد أخذ المصلين بصوته إلى عالم آخر ينتشر ويملأ أرجاءه حالة روحانية عظيمة؛ حيث تهدئ النفوس وترق القلوب وتبكي العيون متأثرة بعظمة كلام الله عز وجل

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/26 الساعة 05:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/26 الساعة 05:05 بتوقيت غرينتش

في إحدى تلك الليالي الرمضانية المباركة وقف المصلون كالبنيان المرصوص في خشوع وورع يستمعون إلى كلام الله عز وجل مغذياً أرواحهم بالإيمان وتقوى الله، ويقشعر أبدانهم وينير عقولهم صادراً من ذلك الإمام ذي الصوت الرنان البديع، لقد أخذ المصلين بصوته إلى عالم آخر ينتشر ويملأ أرجاءه حالة روحانية عظيمة؛ حيث تهدئ النفوس وترق القلوب وتبكي العيون متأثرة بعظمة كلام الله عز وجل، الذي ليس له مثيل؛ تُلفظ الحروف من فم الإمام كما يجب أن تكون، ممزوجة بأحكام تجويد محكمة وحفظ متقن، ويزين قراءته صوته الجميل الذي يجذب الآذان والقلوب، إنه التغني بالقرآن كما يجب أن يكون؛ بالطبع الصوت الجميل هبة من الله سبحانه وتعالى، ولا دخل لنا بها ولكن القراءة الصحيحة وحفظ كتاب الله وتدبر معانيه وفهمه هي أشياء بأيدينا ونستطيع فعلها بالعزيمة والاجتهاد.

أظن أن العقول ذهبت للبحث عن الثواب والمكافأة من قراءة وحفظ القرآن، فهذه هي طبيعة الإنسان، يريد دائماً تقديراً لمجهوده، ولا عيب في ذلك، ولكن في المقام الأول إدراك قيمة ما نفعله، وسببه يأتي أولاً حتى تتكون عندنا القناعة والدافع الذي سوف يدفعنا للأمام؛ لنكمل الطريق إلي النهاية، وننال المكافأة؛ لذلك يجب أن ندرك في بادئ الأمر أن كتاب الله عز وجل هو منهجنا الذي يجب أن تسير عليه حياتنا، وهو مرجعنا الذي ندبر به أمورنا، من أجل أن ننال مكافأة حياة سعيدة بعيدة تمام البعد عن البؤس و الشقاء فيقول الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"، وكذلك: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" فالمكافأة الدنيوية هي حياة سعيدة ومستقيمة وقلب مطمئن تلك النعم التي يبحث عنها الكثيرون، وهم غافلون أنها بأيديهم.

ولكن المكافأة الكبرى تكمن في نيل رضا الله وجنته في الآخرة، فقارئ القرآن وحافظه له منزلة خاصة عند الله، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، كما أن القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة فلنتخيل لدقيقة هول ذلك اليوم وضعفنا وخوفنا واحتياجنا لهذه الشفاعة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" رواه مسلم، وفي يوم القيامة ما أحوج الإنسان إلى حسنة تنجيه من العذاب، ونحن نملك كنزاً كبيراً نستطيع أن نستزيد منه بالحسنات، فعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي؛ لقد خلقنا الله لنعبده ولم يجعل عبادته عسيرة، بالعكس لقد مهد لنا أبسط الطرق لنتقرب منه وفتح لنا أبواب التوبة، ولم يجعل بيننا وبينه وسيط؛ لكي يستجيب لدعائنا وأنزل القرآن لنعيش حياة ناعمة، فبأي وجه ندير ظهرنا لنعم الله وكتابه.

لقد قال لي أحد الأشخاص الذي احتسبه عند الله من الصالحين: "القرآن الكريم ليس بجريدة"، وتلك الجملة تحمل في جعبتها الكثير من المعاني، فقراءة القرآن تكون بخشوع وتدبر في كل كلمة، وفهم كل آية من آيات الله عز وجل، فلكل آية هدف من ورائها، فقراءة القرآن قراءة صحيحة لازمة؛ لأنه من الممكن أن حرفاً خاطئاً يغير معنى آية بأكملها، فالله سبحانه وتعالى مُنزل القرآن بإحكام وميزان محدد؛ من طبيعة الإنسان الراغب في التعلم عندما يقابله شيء يصعب عليه فهمه، فإنه يبحث عن معناه أو يسأل عنه، وهذا الذي سوف يقابلك عند القراءة لكتاب الله عز وجل، فهناك بعض من الآيات قد لا يصل معناها الكامل لك، فتبحث عن تفسيرها ليزداد إيمانك اكتمالاً وتغمر الطمأنينة روحك.

سوف تقابل العديد من الآيات التي سوف تؤثر فيك ويقشعر بدنك عندما تتذكرها أو تتلى عليك، وأخرى تشعرك بالقوة، وأن الله معك في كل زمان ومكان، فيقول الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وأخرى تشعرك بالسند وقت الشدائد، وما أعظم أن يكون الله سندك ومخرجك من الضيق، فيقول الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، وكذلك: ‏(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏).

وأخرى التي سوف تزيدك يقيناً وإيماناً، وأنه كلامه الله عز وجل، وليس كما يدعي البعض أنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الله تعالى: (وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَاْبُ شَيْئَاً لاْ يَسْتَنْفِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّاْلِبُ وَالمطْلُوْبُ)، ولقد تم إثبات وجود إفرازات عند الذباب بحيث تحول ما تلتقطه إلى مواد مغايرة تماماً لما التقطته؛ لذا فنحن لا نستطيع معرفة حقيقة المادة التي التقطتها، وبالتالي لا نستطيع استنفاد هذا المادة منها، وكذلك: (كُلَّمَاْ نَضَجَتْ جُلُوْدُهُمْ بَدَّلْنَاْهُمْ جُلُوْدَاً غَيْرَهَاْ لِيَذُوْقُواْ الْعَذَاْبَ)، وقد تم إثبات أن الجسيمات الحسية المختصة بالألم والحرارة تكون موجودة في طبقة الجلد وحدها، ومع أن الجلد سيحترق مع ما تحته من العضلات وغيرها، إلا أن القرآن لم يذكرها؛ لأن الشعور بالألم تختص به طبقة الجلد وحدها، وكذلك: (يَخْلُقُكُمْ فِيْ بُطُوْنِ أُمَّهَاْتِكُمْ خَلْقَاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِيْ ظُلُمَاْتٍ ثَلاْثٍ)، ثبت أن هناك ثلاثة أغشية تحيط بالجنين الأغشية الملتصقة التي تحيط بالجنين وتتألف من الغشاء الذي تتكون منه بطانة الرحم والغشاء المشيمي والغشاء السلي، وهذه الأغشية الثلاثة تشكل الظلمة الأولى لالتصاقها ببعضها وجدار الرحم، وهو الظلمة الثانية وجدار البطن وهو الظلمة الثالثة وغيرها من الآيات الكثيرة، فكيف لرسول الله أن يحظى بهذه المعلومات من دون الله.

لقد تركنا تلك النعم والمعجزات وانشغلنا بالحياة الدنيا ومتاعها، فأصبحنا أمة الإسلام لقباً فقط، وليس فعلاً؛ فنزرع بذرة من الصغر أن الدين شيء طرفي دعونا نتجول قليلاً في إحدى المدارس، ونسأل عن مادة التربية الإسلامية، فنجدها غير أساسية ولا تشغل حيزاً مثل باقي العلوم، هذا إن وجدت من الأساس، فينشأ الطفل علي أن دينه غير أساسي في حياته، فيصبح رجلاً ناضجاً في المستقبل جاهلاً بقرآنه لا يستطيع قراءته، ولا يحفظ منه سوى القليل و لا يفهم منه سوى الشيء الطفيف فيصبح هاجراً للقرآن، فاقداً طوق نجاته في الدنيا والآخرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد