قبل 1000 عام على الأقل من اللحظة التي نظر فيها فيثاغورس لمثلثٍ قائم الزاوية واكتشف أنَّ مربّع طول وتره دائماً ما يساوي مجموع مربع طولي ضلعيه الآخرين، التقط عبقريٌ بابلي مجهول لوحاً من الصلصال وقلماً من القصب، وخطّ عليه ليس ذات النظرية فقط، بل أيضاً سلسلة من جداول حساب المثلثات التي يدَّعي العلماء أنَّها أكثر دقة من أيٍ من الجداول المتوافرة لدينا الآن.
وقد نجا اللوح الصلصالي المكسور عبر الزمن وهو موجودٌ الآن بمجموعة جامعة كولومبيا، والآن يعتقد العلماء أنّهم قد اكتشفوا أسراره، بحسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية.
ويعتقد الفريق القادم من جامعة نيو ساوث ويلز في مدينة سيدني الأسترالية أنَّ الكتابة المسمارية – وهي علاماتٍ تُحفر في الطين الرطب – الموجودة على اللوح في 4 عواميد و15 صفاً تمثِّل أقدم الجداول الخاصة بحساب المثلثات وأكثرها دقة في العالم، وهي أداةٌ ربما كانت تستخدم آنذاك في عمليات المسح والمعاينة، وفي حساب كيفية بناء المعابد، والقصور، والأهرامات.
وقد أثبتت الآثار المكتشفة صحة مدى تطوُّر المعمار والهندسة البابلية. إذ يعتقد بعض علماء الآثار أنَّ حدائق بابل المعلَّقة التي تعد من عجائب الدنيا السبع كانت هرماً مدرَّجاً ومزروعاً باستخدام نظام ريّ صناعي مُعقد، وقد أدرجه المؤرخون اليونانيون كأحد عجائب الدنيا السبع القديمة.
ووصف دانييل مانسفيلد، وهو أحد الأساتذة بكلية الرياضيات والإحصاء في جامعة نيو ساوث ويلز، اللوح الذي قد يكشف بعضاً من أساليبهم في البناء باعتباره "عملاً رياضياً بديعاً يشي بعبقريةٍ لا شك فيها"، مع احتمال وجود تطبيقاتٍ حديثة له لأنَّ الأساس 60 المُستخدَم في حسابات البابليين قد سمح باستخدام كسورٍ أكثر دقة من الأساس 10 المعاصر.
وقد تجادل العلماء لما يقرب القرن حول تفسير اللوح المعروف باسم بليمبتون 322 أو "Plimpton 322″، منذ أوصى الناشر جورج بليمبتون من مدينة نيويورك بإهدائه إلى جامعة كولومبيا بعد وفاته كجزءٍ من مجموعةٍ ضخمة في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان قد اشتراه من إدغار بانكس، وهو رجلٌ دبلوماسي وتاجر تحفٍ أثرية وعالم آثارٍ هاوٍ لامع، قِيل إنَّ شخصية إنديانا جونز قد استُوحيت منه – وتضمّنت رحلاته البطولية تسلُّق جبل أرارات في محاولة فاشلة لإيجاد سفينة نوح – وكان بانكس قد اكتشف اللوح في أثناء التنقيب عن الآثار بجنوب العراق في بداية القرن العشرين.
ويقول مانسفيلد، الذي نشر بحثه مع زميله نورمان وايلدبرغر في مجلة Historia Mathematica العلمية المختصّة بتاريخ الرياضيات، إنَّه رغم إدراك العلماء على مدار عشرات الأعوام حقيقة أنَّ اللوح يعرض نظرية سبقت تلك التي وضعها فيثاغورس بوقتٍ طويل، فإنَّه لم يكن هناك اتفاق بشأن القصد الذي أُعِد هذا اللوح من أجله.
وقال: "كان اللغز الأعظم حتى الآن هو الغرض منه، ولِمَ قام الكتبة القدامى بتلك المهمة المعقدة لاستحداث وترتيب الأرقام المحفورة على اللوح. ويكشف بحثنا أنَّ اللوح بليمبتون 322 يصف أشكالاً للمثلث قائم الزاوية باستخدام نوعٍ جديد من حساب المثلثات يعتمد على النِسب، وليس الزوايا والدوائر. إنَّه عملٌ رياضي بديع يشي بعبقريةٍ لا شك فيها".
وأضاف مانسفيلد: "لا يحتوي اللوح فقط على أقدم جدولٍ لحساب المثلثات في العالم، بل إنَّه أيضاً الجدول الوحيد الدقيق تماماً، ويرجع هذا للنهج المختلف الذي تعامل به البابليون مع علوم الحساب والهندسة. وهذا يعني أنَّه ذو أهمية كبيرة لعالمنا المعاصر. لقد انتهى زمن الرياضيات البابلية منذ أكثر من 3000 عام، لكن ربما يكون لها تطبيقاتٍ عملية في مجالات الإحصاء، والرسومات الحاسوبية (الغرافيكس)، والتعليم. وهذا مثالٌ نادر يعلِّمنا فيه العالم القديم شيئاً جديداً".
ويسبق اللوح عصر عالم الفلك اليوناني هيبارخوس بقرون، وهو الذي يُعَد تقليدياً أباً لعلم حساب المثلثات.
وقال وايلدبرغر: "يسبق لوح "بليمبتون 322″ هيبارخوس بأكثر من 1000 عام. وهو يفتح لنا آفاقاً جديداً لا تقتصر فقط على الأبحاث الرياضية المعاصرة، بل أيضاً أمام تعليم الرياضيات. فمن خلال بليمبتون 322 نرى علماً أبسط وأكثر دقة لحساب المثلثات يتفوق بوضوحٍ على ذلك الموجود لدينا الآن".
ويعتقد وايلدبرغر ومانسفيلد أنَّ هناك المزيد لاكتشافه عن الرياضيات البابلية، لكنَّه لا زال مدفوناً في ألواحٍ غير مترجمة أو مدروسة بعد.
وأضاف: "هناك كنزٌ دفين من الألواح البابلية، لكنَّ جزءاً صغيراً منها فقط تمت دراسته. والعالم الآن يستيقظ على حقيقة أنَّ تلك الثقافة القديمة، لكن المتطورة، يمكنها أن تعلِّمنا الكثير".
ويقترح العالمان أنَّ الرياضيات وراء لوح بليمبتون 322 تشير إلى أنَّه تكوَّن بالأساس من 6 أعمدة و36 صفاً. ويعتقدان أنَّه كان أداةً للعمل، وليس وسيلةً تعليمية للتحقق من الحسابات كما اقترح البعض. وقال مانسفيلد: "كان لوح بليمبتون 322 أداةً قوية أمكن استخدامها في مسح الأراضي أو إجراء الحسابات المعمارية لبناء القصور، أو المعابد، أو الأهرام المدرّجة".
وبالعودة لعام 1945، كان عالم الرياضيات النمساوي أوتو نويغيباور ومساعده أبراهام ساكس هما أول من لاحظ أنَّ بليمبتون 322 احتوى على 15 زوجاً من الأرقام التي كوَّنت أجزاءً من ثلاثيات فيثاغورس: وهي تلك في 3 أرقام صحيحة (أ، ب، ج)، بحيث أنَّ مربّع "أ" زائد مربّع "ب" يساوي مربّع "ج". ومثلاً فإنَّ الأرقام 3، و4، و5 هي مثالٌ مشهور على إحدى ثلاثيات فيثاغورس، لكنَّ القيم المحفورة على بليمبتون 322 أكبر كثيراً؛ إذ يشير الصفّ الأوّل على سبيل المثال للأرقام الثلاثة 119، و120، و169.