الغريب في الناس أنهم يفكرون دائماً في الصورة النهائية، ينظرون إلى الصورة الكاملة، ويحكمون عليها متناسين تماماً التفاصيل.
نملك سرعة غير عادية في إطلاق الأحكام انطلاقاً من الصورة الكاملة التي نراها، وفي نهاية ننصدم جداً عندما نجد الواقع الحقيقي مختلفاً جداً عن الواقع الذي تم تكوينه بناءً على أفكارنا، وكذلك ملاحظاتنا النيرة وقدراتنا الخارقة في الحكم على الأشياء واستنباط المعاني.
عندما تعرف أن صاحب الشأن نفسه أي صاحب الصورة الكاملة لا يرى أو يُبصر الذي أنت شخصياً تُبصره، فتَستغرب عندما تجده يعارضك! فتحاول أن تقاومه لكي يصدق واقعك أنت، في حين أنه يعيش واقعاً مختلفاً تماماً.
إدراكنا للأمور جزء كبير جداً من الإشارات التي ستوضح الطريقة التي ستكون عليها حياتنا، فهناك دائماً مَن يملك إدراكاً جميلاً جداً ومناسباً، لكن دائماً تجد مَن يحاول أن يسرقه وأن يزرع الإدراك الخاص به ليس لأنه الإنسان المثالي، بل فقط لتكون شبهاً له، فلطالما عشقنا التشابه، وكره بعضنا بعضاً في الاختلاف.
نعشق أن تعيش واقعنا الذي نراه فلو اختلفت فأنت تهددنا!
لن تستطيع إدراك إلا ما تعرفه عن نفسك؛ لذلك لا يخاف الأطفال من الأسود مثلاً.. لا يدركون أنها كائنات مخيفة وقاتلة، وعندما تدخل المعلومة في عقولهم يخافون منها، ولكن الغريب في الأمر أن الخطر يزداد في حالة إدراكك له؛ لذلك عزيزي القارئ إذا ما وجدت نفسك في يوم من الأيام تحكم على شخص ما بشكل سلبي، توقف لحظة واسأل نفسك لماذا أنا (الحكم) أكثر منه؟
أنت ترى بما بداخلك، فاحذر الأحكام على الآخرين.
لطالما ادّعينا أننا موضوعيون ونميل إلى الحكم بمصداقية، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، هي مجموعة الأنماط والمواقف تأثر بطريقة لا واعية بما يسمى الإدراك الخفيّ في حكمنا على الأشخاص وقراراتنا اليومية، هذه الأنماط التي قد تكون الديانة التي يعتنقها الشخص، لون البشرة، الجنس وحتى الأمور الصغيرة المختلفة من شخص لآخر، لكنها تعني نمطاً ذا معنى ستعمل أدمغتنا عند الحكم عليها بطريقة بعيدة كل البعد عن المصداقية عندما تواجه شخصاً أو حتى فكرة بنفس النمط!
الأحكام المسبقة جريمة في حق الحقيقة
إن معالجة هذا الإدراك الخاطئ والانحياز الواعي واللاواعي تتطلب منا الاعتراف بوجوده، عندها سنعرف ما الذي بإمكاننا فعله؛ لنكون أكثر حيادية ومصداقية في الأمور التي تتطلب ذلك.
في تجربة شهيرة كانت تهدف لتبيان ما إن كان الذكور أفضل حقاً في العزف على الآلات الموسيقية في فرق الأوركسترا من الإناث؛ حيث كانت الإناث يمثلن ما نسبته أقل من 5% في عضوية مثل هذه الفرق الموسيقية والمشاركة فيها، فقرر الفريق الباحث أن يتم الحكم على أداء الفرد، دون أن تعرف لجنة التحكيم جنس المؤدي، حتى إنه قد طلب من المشاركين جميعاً، وقبل الدخول إلى القاعة للأداء خلع أحذيتهم، وذلك حتى لا تكون أصوات طقطقة الكعب العالي التي تصدرها النساء سبباً في الكشف عن جنسهن، وبالتالي استبعادهن مباشرة!
وقد كانت النتيجة مؤشراً فظيعاً على كمية التحيز غير المدرك ضد الإناث ولصالح الذكور، فقد ازدادت نسبة اجتياز الإناث للمرحلة الأولى بـ 50%، كما ازدادت نسبة قبولهن بناء على أدائهن ضمن الفرقة بثلاثة أضعاف! تخبرنا هذه التجربة كيف أن الجنس لعب في الماضي، ولا يزال، دوراً هاماً في الحكم على قدرات الشخص وقبوله أو استبعاده، دون الاستناد إلى أسباب منطقية ذات علاقة.
وهذا ينعكس أيضاً في موضوعات تخص الفكر أو حتى قضايا الرأي العام، فقضية ربط الإرهاب بالمسلمين والإسلام ومعاداتهم أصبحت مثالاً، المعظم يتخذ أحكاماً بناء على أنماط تفرضها عليه الحكومات أو وسائل الإعلام والسينما، دون أن يمعن النظر، ويفصل هذه الأنماط عن الأفكار التي تمثلها، فليس لأن جماعة متطرفة اتخذت من فهمها لبعض النصوص الدينية منطلقاً لممارسات إرهابية تصبح هناك علاقة حتمية بين الدين الذي تنتمي له هذه الجماعة وبين الإرهاب، كذلك يتبنى الكثيرون وجهات نظر قاسية ضد المنتقبات فالحجاب أيضاً من الأمور التي يحكم عليها بصورة متحيزة لا واعية ويتم ربطها بنمط إرهابي أو إسلامي رجعي.
فتأكد عزيزي القارئ أن إدراك الحقيقة يقتضي تجاوز الآراء و الأحكام المسبقة السائدة لدى الناس عن طريق التفكير واستخدام التأمل العقلي.
هذا يجعلك تفكر في كل شيء أنت مؤمن به وبوجوده، هل هو الواقع أو في النهاية نتاج لعمليات عصبية معقدة في الدماغ؟ لاحظت أنك تكره شخصاً ما، دون أن تعرف عنه الكثير من التفاصيل التي تدفعك لكرهه؟ هل شعرت يوماً أن أحداً يحكم عليك بمجموعة الأفكار المسبقة واللاموضوعية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.