عن هؤلاء الذين لا يرتشفون القهوة كل صباح، ولا يهتمون لسماع تلك المقاطع الموسيقية الهادئة، ولا يملكون شرفات تزينها الورود، ولا يكتبون ما يحدث معهم يومياً كل مساء، عن هؤلاء الغرباء الذين ملأوا مقاعدهم غياباً، عن هؤلاء الضائعين فى دوامة الحياة المقصيين من أحداثها أكتب.
لطالما أحببت مَن يلتزمون الصمت دائماً، فلا تعرف إن كانوا غارقين فى الشيء لدرجة أنهم لا يبالون بالعالم، أم أنهم لا يلقون له بالاً من الأساس، هؤلاء الذين لا نعرف مكنوناتهم منفصلين عن العالم تمام الانفصال يعودون بين حين وآخر يثبتون وجودهم بإمضاء، ثم يعودون إلى عالمهم مرة أخرى، تاركين إيانا حيارى فى أمرنا.
إذا كانت قلوب هؤلاء خاوية وباردة حقاً، لماذا إذن ما زالت تتألم، وما دامت قد سلمت واستسلمت لمَ ما زالت تأنّ وتنبض بقوة، تلك القلوب الهشة البريئه التى تحملت كثيراً فأصبحت تخاف من كل جديد، اخترقتها أعيرة الماضي بحرفية، جعلتها تنكر الاقتراب، ولشدة خوفه من التعلق، تتعلق.
ولشدة خوفها من الفراق، تُفارق، ولشدة خوفها من الألم، تتألم، ولشدة ما تخيفها الهاوية تسقط فيها.. من أصعب اللحظات على المرء، تلك التي تعجز فيها الحروف عن وصف ما بداخله من مشاعر، يسترسل في الحديث، ويُطيل الشرح ويكرر العبارات ويستفيض فى الجُمل، ولكن يبقى الشعور مختلفاً عن كلماته، وتبقى الكلمات في حيرة من أمرها، عاجزةً أمام فيض المشاعر.
أعرف أن الشعور الذي ينطفئ فى المرة الأولى لا يحيا أبداً بذات اللهفة ولا ذات الكمال، مبتوراً إلى حد كبير، إلى حد أن تشعر بفقده مدركاً أنك لن تعيشه مرة أخرى؛ لذلك لا تحاول استعادة نغمة أطربتك، فالسحر كامن في المفاجأة الأولى لا في النغمة ذاتها، فإن أصررت فاسترجعها في خيالك فهو أصدق من التكرار.
عن تلك اللحظات (لحظات السقوط والانكسار) التي أُجبرت على تجاوزها بهدوء، التي لم تأخذ حقها وبقيت نُدبها الدامية في قلبك تأبى الشفاء، عن كل اللحظات التي مررت بها سريعاً، فما كان منها سوى أن تلتصق بذيل ثوبك لتبقى ملازمة لك فى كل حين، تلك اللحظات التي وجب عليك أن تقف لتسوي نزاعاتك وتنهي حساباتك القديمة معها لعلها تندمل، ولكنك استمررت بتجاهلها.
وأنا أيضاً كذلك فبعد كل الظنون التي ظننتها بنفسي بأنني لا أعوض، وبالرغم من أنني إلى هذه اللحظة أبدو قوياً جداً أمام الجميع، لكنني من الداخل لست مقتنعاً أنني كذلك، ومع كل هذا العناء ما زالت لحظات الماضي تؤلمني، كيف يحدث كل هذا لي؟ وأبقى صامتاً، يبدو أنني لست قوياً بما يكفي.
وأتعجب أنا الذي كنت مصمماً على الحياة ولو حتى في مكان لا يتسع إلا لموطئ قدمي، ماذا حدث لي، ماذا فعلت بى الأيام؟! صحيح ما زلت أُقاوِم، أُقاوِم السُقوط في دائرةٍ لا مَخرج مِنها، زاوية لا ضوء فيها، إنني أُقاوِم وأتعَثَّر، لَكنني أُقاوِم، ولكن هل تكفي المقاومة لأجل الحياة!
الآن أقف وسط هذا الكون، وعلى هذه الأرض، وبين كل هذه الحشود، ولكن أشعر بالوحدة، وحدة مطلقة قاتلة، صدري أشبه بمقبرة قديمة منسية تحت أنقاض هذا العصر، لست هنا، ولا يوجد أحد هنا، شعور سيئ أن تكتشف مؤخراً أنك تعاملت دائماً مع الأشباه، أشباه الأحبّاء، أشباه الأصدقاء، وأشباه البشر، لا شيء حقيقي وثابت في حصيلتك إلى الآن.
لا بد أن هناك شيئاً عالقاً من الماضي ما زالت روحه تدب فى جدار الفؤاد شيء لم ينتهِ بعد، شيء ما جعل كل هذه الأمور تعود وتفرض نفسها من جديد، لعله هو سبب تلك القسوة والبرود، لعله سبب تلك الوحدة التي أشعر بها أنا وهؤلاء على رغم كل ما تُحيطنا من جموع.
هيّا قِف.. وأوقف كل شيء، ولأول مرة أدعوك أن تتحرر من الحاضر المقيت وتعود للوراء كي تشفي جرح الماضي الغائر.. فضمادك القاسي المزيف هذا ليس منوطاً بالشفاء، وكفى تمثيلاً وادّعاء باطلاً بالقوة، فروحك المنكسرة لم تعد تحتمل جرحاً جديداً يضاف إلى قائمة جراحاتها القاتلة، فصدقاً استمرارك فى هذا العبث لن يحسم أي أمر، هيا ألقِ نظرة وإلا سوف لن تجد نفسك مفراً من الانهيار والضياع، وسيكون الانهيار مؤلماً للغاية؛ إذ إنها ستسقط على زجاجك المكسور، لذا عليك أن تُزيل هذا الحطام أولاً ثم -إذا أردت- أكمِل البناء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.