لم أستوعب نضوج فكرة الهجرة واستيفاء أركانها إلا عندما ألحَّ عليَّ كاتب الرحيق المختوم الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، بذكرها في أكثر من موضع. استمرارية سرد وتكرار دعوة رسول الله لوفود العرب أثناء موسم الحج 13 عاماً أخرجتني من حيز القراءة السريعة إلى المعايشة المتأنية.
في كل عام من الثلاثة عشر، نعم كل عام، يمشي خلفه عمه أبو لهب يثبط هذه الوفود عن مؤازرة ابن أخيه وتأمين دعوته للناس. كان أبو لهب يقذفه بالكذب تارة وبالجنون تارة أخرى، كل هذا والنبي لا يكلّ ولا يمل. 13 عاماً لم يأمره الله بغير هذا، حتى إذا استوت الأنفس وطابت المدينة واشتاقت القلوب لاستقبال الحبيب، جاء الأمر بالهجرة.
وجدتُ في كتاب الرحيق المختوم معاناةً شديدةً لتكرار الفشل على مدار السنوات الطوال في إقناع قبيلة واحدة تقوم بحماية الرجل ورسالته، حتى الذين استجابوا كانت لهم مطالب بتوريث القيادة بعد وفاة النبي، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "الأمر كله لله يضعه حيث يشاء".
والقياس على نبي الله نوح، وما قضاه من سنين طوال في دعوة قومه لا يستقيم، فخصوصية الرسالة الخاتمة وقصر إعمار الناس جعل من إهدار 13 سنة في تكرار نفس النمط من الدعوة وكأنه ضرب من الجنون.
ولم تكن المعاناة وحدها في وجود مثل هذا العم الفاجر؛ بل لأن العرب وقتها كانوا أهل نخوة وحمية، ينهضون بإيواء الضعيف ونصرة المظلوم. ولكن لمَّا كان من عمِّه ما كان فقد كانوا يقولون: "أهله وقومه أدرى به"، فكان امتناعهم عنه وتجنُّبه أولى من مناصرته.
ولكن تدبير الله أن يختار له أطيب أرض وأطهر قلوب ليهاجر إليهم، ويجد فيهم ليس فقط الناصر والمؤيد؛ بل وجد فيهم الفداء، ووجد فيهم الأهل والعشيرة والحب والإخلاص. وكان منهم العزوف عن الدنيا بمنازعة الخلافة والإقبال على الآخرة بإسداء الأنفس والأموال لنصرة هذا الدين. كيف يكون الحديث عن الهجرة ولا نذكر محضنها ومستودع سرِّها.
اللهم صلي وسلم على صاحب الهجرة، وعلى آله، وعلى أصحابه من المهاجرين الذين تركوا الدنيا خلفهم واتَّبعوه في مهجره، وعلى الأنصار الذين احتضنوا الرسول وأهله وأصحابه فكانوا نعم المهجر ونعم النصير.
وصلاة وسلاماً على مهاجري الإسلام في القديم والحديث، الذين بهم قام ويقوم الدين ويتجدد، فطوبى لهم، وأحسن الله إليهم في مهجرهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.