لم تكن أول مرة أقف فيها حائرةً أمام دموع القلب وأوجاعه، لم تكن أول فتاة تصطدم بالحقيقة الموجعة فتتبخر كل الأحلام التي كانت تنسجها.. هي الأميرة فيها وكان دائماً هو بطلها، نعم هي تلك الأحلام الوردية الشهية التي تقرب البعيد وتحقق المستحيل، تأسرنا طويلاً وتصبح جزءاً منا.. فلا نعود نرى بأعيننا ولا نسمع بآذاننا ولا نفكر بعقولنا.
لم أكن أعرف عن علاقتها بذلك الشاب الكثير سوى أنها كانت تعيش مرحلة تعارف -ما قبل الخِطبة- حسب تسميتها، على أية حال، كان الواضح أنها تعلقت به حد الجنون وأنها واقفة على أعتابه تنتظره.. تنتظر اعترافاً أو ربما مفاجأة لها بطلب يدها مباشرة منها أو من والدها.. نسجت ألف قصة ورواية في مخيلتها عن طريقة اعترافه وعن يوم الزفاف وعن شهر العسل وعدد الأبناء، وظلت تروي انتظارها بحديث إليه كل يوم تبحث في كلماته عن حجم تعلّقه بها، فكان ذلك ترياقاً يخفف ألم الانتظار.
وفي لحظة، تغيَّر كل شيء، فبعد أن ظنت أن الربيع قد حلَّ، وأن الأزهار قد تفتحت، جاءت العاصفة تدمر كل الأحلام واختفى دفء الكلمات فجأة ليمطر القلب دموعه بغزارة.
إنه لا يرد على اتصالاتها، ولا يجيب على رسائلها.. كان سبب الخلاف تافهاً بصدق -على الأقل بالنسبة لي- وبدا كأنهما يبحثان عن دراما لمحاربة الملل الذي يسود علاقتهما غير الواضحة.. لكنها كانت خائفة.. تراه لن يعود حقاً؟
أردت التخفيف عنها فقلت بحزم: إن الأمر لا يستحق كل هذا القلق والبكاء عزيزتي، امسحي دموعك وقرّري قضاء يوم جميل.. هناك بعض المواقف تخبرك بمعادن الناس.. أعطِه مساحة ليفكر، وأنت أيضاً تحتاجين لحظة لاتخاذ قراراتك بشكل صحيح بعيداً عن الانفعال.
رمقتني بنظرة حادة، وكأنني أطلب منها إعلان العصيان، أو الكفر بكل الأديان.. ولربما كان هذا عليها أهون.
كانت نظرتها أبلغ من كل الكلمات، وصلتني الرسالة واضحة: أريده وفقط.
تراجعت؛ لأنه كان واضحاً أن القلب قد تمرد على العقل، ولن تُجدي مخاطبة العقل شيئاً.
ترى.. أهو الحب يظلمنا؟ أم أننا من نظلمه؟
أهو الحب أصلاً مَن يعمي بصائرنا ويلغي تفكير عقولنا؟
كيف يكون الحب ذلك الإحساس الذي يرتقي بنا إلى عوالم من خيال، ثم يكون نفسه الذي ينزل بنا تحت أنقاض قلوب مكسورة؟ كيف يكون في نفس الوقت تلك الشعلة التي تدفئنا ثم يتحول إلى نار تحرق كل جميل فينا؟
أهو الحب حقاً؟ أم أنه شيء آخر يتنكر في شكل الحب ويخدعنا؟
أي نوع من الحب هذا الذي يفسد ولا يصلح؟ يفرق ولا يجمع؟ يقتل ولا يُحيي؟ يضعف ولا يقوّي؟
هناك حلقة مفقودة في رؤيتنا للحب.. فمن أين استقينا معانيه يا ترى؟ أتم تدريسنا إياها في المنزل؟ في المدرسة؟ أمام شاشة التلفاز؟ من الأفلام والمسلسلات الغرامية؟ أم من الروايات الرومانسية؟.. أم من كلام الناس وهمساتهم في آذاننا؟
لقد ارتبطت كلمة الحب عندنا بفارس الأحلام.. ذاك الذي سيختارك من بين جميع الفتيات، ويختطفك من بين أحضان أسرتك، سيعلن للعالم أنه يحبك.. ثم سيتزوجك.
إنها النظرة الخرافية للحب التي روّجتها وسائل الإعلام فكانت مجالاً خصباً للأرباح من وراء الأفلام والمسلسلات الدرامية ليومنا، لكنها دمرت العديد من الأشخاص والأسر الذين اصطدموا بواقع مأساوي في الغالب لعلاقات كانوا يرون فيها النموذج للحب.
فأصبح الجميع يكتب عن الحب وعلاقته بالزواج، منهم مَن يقول تزوج عن حب، لكن الواقع أثبت أن كثيراً من علاقات الحب تستمر قبل الزواج، وتتحطم بعد الزواج بمدة قصيرة.
ثم كتب آخرون متشائمين بأنه لا وجود للحب أصلاً، وذهب آخرون إلى أن أنجح علاقات الحب تلك التي تبنى بعد الزواج معتمدين على نموذج الأجداد الذين استمروا في زواجهم سنين.
قد أكذب إن قلت إنني أملك الإجابة، لكن كل ما أنا متأكدة منه أن المنبع الذي يستقي منه أغلبنا مفهوم الحب هو ليس منبع الحب الأصلي.
ماذا لو عدنا لأصل الحب؟
الله سبحانه أصل كل حب.. نعم ربما تخبرني بأن حب الله والوالدين و..و.. شيء.. والحب الذي نتحدث عنه شيء.
أظن أن للحب معنى واحداً.. تطبق مبادئه في أي اتجاه أردت.
هل سبق أن شعرت بحب الله لك؟ هل سبق أن رأيت تجلياته عليك؟ نعم.. تلك النعم التي تغرقك وأنت في غفلة عنه.. تلك الدروس والعِبر التي وضعها بين يديك كي يلهمك إلى الصواب.. إلى الجنة، إنه يواسيك حين تكون حزيناً، ويعلمك كيف تصبر وكيف ترتقي بإنسانيتك وعلمك وأخلاقك، ألم تشعر يوماً أن القرآن مليء بالحب؟ إنه كذلك حقاً.
ماذا عن أمك؟ تلك التي تحبك دون شرط، دون قيد، تعطيك دون أن تسأل، تشجعك للوصول إلى أهدافك، توجهك وتصارحك بعيوبك وتساعدك على الرقي بنفسك.. تسامحك على هفوات لسانك.. ولا تحاسبك عن أخطائك.. ألم تشعر يوماً بحجم الحب الذي تحمله والدتك؟
كذلك الأب، وحجم تضحياته دون مقابل..مساندته لك وتشجيعه.. فقط كي تكون أنت ذلك المستقبل الجميل.
الحب يحيطنا من كل جانب.. لكن لا أحد يعترف لنا به قولاً.. إنما نعيشه ونراه في كل حركاتهم وسكناتهم.
إنه الحب الذي يدفعنا للأمام، يُحيينا ويقوينا، يجمعنا ولا يفرقنا، يبنينا ولا يهدمنا، إنه حاجة ضرورية لنستمر في الحياة.. "الحب ضروري لمواجهة الخراب"، كما قال الكاتب فيصل عثمان.
إن كان هذا هو الحب؟ فما هو إذن ذاك الشعور الذي يجعلنا متعلقين بشخص دون آخر حتى وإن لم نكن نعرف عنه شيئاً؟ أو نعلم حق العلم أنه لن يكون إلى جانبنا ولن يصبر على هفواتنا.. لن يخلص ولن يفي.
ما هو ذلك المارد الذي يوقفنا عند باب الانتظار، لتمر الحياة بئيسة بين أيدينا؟ ما هو هذا الشيء الذي يترك وجعاً بقلوبنا الضعيفة؟ ويحطمها حتى قبل أن تسعد بالفرح.. الأكيد أنه ليس الحب، وأنه أي شيء غير الحب.
سمّه وهماً صدَّقه القلب، سمّه إعجاباً أو عشقاً جاء في صورة حب، سمّه تمرداً أو نزوة، هوى أو ضعفاً، سمّه ما شئت، لكن لا تظلموا الحب.
أخيراً.. لست أعرف عن الحب سوى ما يحيطني، وأراه الأصل الذي ستنجح به أية علاقة إنسانية.
إنه لا يرتبط بالنظرة ولا بالشكل لا بالمال ولا بالأصل.
الحب ينشأ حيث وجدت الرحمة والمودة؛ حيث وجد الاهتمام والمساندة حيث وجد الأمن والدفء والطمأنينة، لا ينشأ برسائل عبر النت أو باتصالات عبر الهاتف ولا عند طاولة عشاء.
لذلك لا يجب أن نغالط أنفسنا عند تعلقنا بسراب أو وَهْمٍ، ولا يجب أن نحمل الحب كل آلامنا.. الحب حقاً بريء وكل أوهامنا نسج لخيالنا، فمتى حكّمنا العقل، أدركنا الحب من الوهم، وحيث أدركنا الحب، سنجده بالتأكيد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.