لكي تدفع بأيديولوجيا جديدة إلى المسرح السياسي أو تسعى لترسيخ أي اتجاه فكري جديد، فلا بد من تقديم منظومة مفاهيم تكون مقبولة ومتوافقة ومنسجمة مع قيمنا ورغباتنا، وأن تكون متوافقة أيضاً مع الإمكانات في العالم الاجتماعي الذي نعيش فيه.
فإذا كانت هذه المنظومة ناجحة، يُسلّم بها دون جدال ولا تكون عُرضة للشك. لهذا، اتخذ مؤسسو الفكر النيوليبرالي قيماً سياسية كـ"كرامة الإنسان وحرية الفرد" على أنها المُثل الأساسية.
هذا طبقاً لقواعد ونظريات ترسيخ الفكر السياسي.. فمُصطلح "النيوليبرالية" غير معروف أو مُتداول تقريباً بين أوساط العامة، باستثناء بعض الأكاديميين وأفراد مجتمع "البزنس"، فقد تصور البعض "النيوليبرالية" على أنها سياسات الأسواق الحرة التي تشجع المشروع الخاص، وحرية المستهلك وتكافئ المسؤولية الشخصية، وروح المبادرة التنافسية، كما أنها تقوض الدور غير الفعال للحكومة البيروقراطية العالة على شعبها.
ويُعد كتاب ميلتون فريدمان "الرأسمالية والحرية"، والذي حقق نجاحاً وشعبيةً عالية، مثالاً جيداً لكيفية ترجمة الحُجج الاقتصادية للنيوليبرالية إلى أيديولوجيا سياسية رائجة، بينما يمكن اعتبار مارغريت تاتشر ورونالد ريغان المروجَين الأكثر موهبةً للنيوليبرالية كأيديولوجيا سياسية.
فقد أتت الانطلاقة النيوليبرالية الحاسمة في نهاية عقد السبعينيات؛ ففي ربيع 1979 أصبحت مارغريت تاتشر، التي كانت مناصرةً قويةً للنيوليبرالية، رئيسة وزراء المملكة المتحدة، حيث قامت بخصخصة الصناعات الوطنية، ومشاريع الإسكان، وهاجمت النقابات العمالية وشجعت المخاطرة التجارية.
حيث أقدمت على المزيد من الإجراءات التي أضعفت قوة النقابات عندما انفتحت المملكة المتحدة على المنافسة الأجنبية وعلى الاستثمارات الأجنبية، فكان من شأن المنافسة الأجنبية أن دمرت القسم الأعظم من الصناعات التقليدية البريطانية في الثمانينيات، فاختفت صناعة الحديد والصلب (في شيفيلد) وبناء السفن (بغلاسكو) في بضع سنين، ومع اختفائها ذهب القسم الأكبر من قوة النقابات.
وبدأت تاتشر أيضاً عملية خصخصة لكل قطاعات الاقتصاد التي كان يملكها القطاع العام، فقد رأت أن هذه الخصخصة سوف تدعم وتعزز الخزينة العامة وتخلّص الحكومة من التزامات مستقبلية مرهقة بخصوص مشاريع أعمال خاسرة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1980، تم انتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وتوالت الانتصارات المتتالية لتاتشر وريغان، وظهرت القوة الرأسمالية المُهيمنة؛ اثنان من أهم المراكز المالية "وول ستريت ومدينة لندن"، وأصبحا تحت هيمنة الأيديولوجيا والسياسات النيوليبرالية.
فالقاعدة الخامسة من ركائز تنفيذ "النيوليبرالية" تُصرح بإلغاء مفهوم "الصالح العام" أو "المجتمع" واستبداله بـ"المسؤولية الفردية"، والضغط على الناس الأكثر فقراً في المجتمع ليجدوا حلولاً لفقدانهم الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي بأنفسهم وإذا فشلوا يُطلق عليهم مُصطلح "كسالى"!
هذه الحكومة لا يمكن أن تفلح مطلقاً فى إدارة شؤون البلاد حتى لو امتلكت حسن النوايا! ولقد فُرضت "النيو ليبرالية" حول العالم بواسطة المؤسسات المالية القوية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التطوير عبر أميركا.
وخير شاهد ملموس عن "النيو ليبرالية" بالفعل جاء من تشيلي (بفضل الاقتصادي من جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان)، بعد الانقلاب الذي دعمته المخابرات المركزية الأميركية على نظام ألينيدي المنتخب شعبياً عام 1973، تبعتها دول أخرى.
وكانت أكثر النتائج سوءاً في المكسيك، حيث انخفضت الأجور بنسبة 40 إلى 50% في السنة الأولى من سريان اتفاقية "النافتا"، فيما زادت تكاليف الحياة بنسبة 80%، وتمت خصخصة أكثر من 1000 شركة مملوكة للدولة في المكسيك.
كما أن لدى أصحاب وأنصار النظرية "النيوليبرالية" شكوكاً عميقة في الديمقراطية، فهم يرون أن الحكم بقانون الأغلبية خطر محتمل على حقوق الفرد، وهم ينظرون إلى الديمقراطية على أنها ترفٌ لن يكون ممكناً إلا بحضور قوي للطبقة الوسطى للضمان الاجتماعي؛ لذلك يفضل النيوليبراليون حكم الخبراء والنخبة ويؤيدون الحكم بمُوجب أمر تنفيذي يكون بديلاً عن عملية صنع القرار ديمقراطياً وبرلمانياً.
فالنيوليبرالية هي العدو الرئيس والمباشر للديمقراطية الحقيقية القائمة على المشاركة في بلدان العالم كافة، وستكون كذلك في المستقبل المنظور.
وأكد المُفكر الأميركي نعوم تشومسكي، في مُؤلف "الربح مقدماً على الشعب"، أن المنظومة العقائدية لشركات الإعلام الإخبارية ووكالات العلاقات العامة وكبار المثقفين والمُفكرين يدفعون بـ"الأوهام الضرورية" لجعل هذا الوضع المزعج منطقياً وهادفاً إلى الخير العام!
وقد اقترب تشومسكي في كشف نفاق الحكام والأيديولوجيين بالمجتمعات الرأسمالية، في الوقت الذي يدّعون أن ديمقراطيتهم هي الشكل الوحيد للديمقراطية الحقيقية المُتاح للبشرية.
وما قاله منظمو مؤتمر دافوس عام 1996 خير دليل على دخول العولمة الاقتصادية مرحلة جديدة، فهناك رد فعل متصاعد ضد آثارها، وخاصة في البلدان الديمقراطية الصناعية، المُهدَّدة بأثر مُدمر للنشاط الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي في بلدان العالم.
وبهذا، لم تشهد الحقبة النيوليبرالية زيادة في معدلات النمو، فقد شهدت تحولاً لافتاً في بنية الاقتصاد العالمي؛ ففي أغلب دول العالم قلصت النيوليبرالية من قوة التنظيمات العمالية وزادت من قوة رأس المال، وقاد ذلك إلى ارتفاع اللامساواة في الدخل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.