وسائل التخبّط الاجتماعي

ليس الأمر في إضاعة الوقت فقط، ولكن من أشد تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي إمكانيتها تغيير عقلية أجيال كاملة. فمن السهل نشر الثقافات والأفكار المختلفة من خلال تلك المواقع، ومع تكرار نشرها مرة ومرتين ومائة مرة، ستعتادها العقول الضعيفة دون أن تميزها وتصبح عادة لهم وربما يحثوا الآخرين على فعلها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/21 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/21 الساعة 02:12 بتوقيت غرينتش

يُقال إن الغاية الأساسية من مواقع التواصل الاجتماعي هي إنشاء منصة لتوطيد العلاقات بين الأفراد وخلق شبكة عصرية لمشاركة اللحظات الهامة والأحداث اليومية مع الأصدقاء والمعارف. وهي وسيلة أكثر من رائعة للتعلم وتبادل الخبرات ومعرفة المزيد عن الثقافات الأخرى والبلدان الأجنبية من خلال مواطنيها بشكل مباشر.

ومع انتشار تلك المواقع، أصبحت أفضل الطرق للإعلان والتسويق لجميع المنتجات والخدمات، ووفرت الفرص لأصحاب الأعمال الفنية واليدوية لعرض مهاراتهم وأعمالهم بشكل واسع.

من المميزات الخفية لمواقع التواصل، كشف السرائر واكتشاف النفوس، فحينما تتاح السرية -إمكانية إنشاء حساب بأي اسم مزيف- حيث لا يمكن لأي شخص أن يعرف هويتك الحقيقية ولا يستطيع اكتشاف ما تقوم بفعله ولا معرفة الأشخاص الذين تتواصل معهم أو تتابعهم على مواقع التواصل، حين يكون الأمر بينك وبين ربك فقط، هنا تظهر السرائر والنفوس على طبيعتها.

أصبحت مواقع التواصل عالماً افتراضياً لكل من يريد الابتعاد عن عالمه الواقعي؛ ليصنع بنفسه العالم الذي يتمنى العيش فيه. فتجد البعض ينشر عن نفسه أشياء لا تمت إليه بأي صلة، تجد شخصاً زائفاً مدّعي الصفات تارة، تجد مَن يدّعي التدين، وتارة مَن يدّعي الثقافة، ومَن يدّعي الغنى، ومَن يدّعي العلم وهلم جرا؛ ليصنع لنفسه شخصية خيالية تخدع كل مَن يقوم بتصفح صفحاته الشخصية على مواقع التواصل، وكل هذا فقط لينال إعجاب الآخرين، بأي طريقة كانت.

"ملتهمة الوقت" هكذا أسميها، فما إن تلبث تتصفح تلك المواقع إلا وتجد العديد من الساعات قد مضت وأنت لا تدري. إن لم تحذر، فستقرأ الكثير والكثير من الأمور التي لا تفيد وتعرف العديد من الأخبار (يكون معظمها في الغالب مكرراً وغير هام)، ويمضي الوقت ولم تستفد شيئاً. كلنا نعرف أنه من المفيد وضع وقت محدد لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن قليل منا من يطبق الأمر حقاً.

في الجامعة، في العمل، في الشارع، في النادي، عند انتظار المواصلات، عند زيارة المعارف، في المناسبات والأعياد، ولا سيما بالمنزل، وحتى عند النوم، الشيء المشترك بين كل تلك الأمور هو الهاتف الذي لا يكاد يفارق أيدينا أينما ذهبنا ووقتما كنا!

أصبحنا الحاضرين الغائبين؛ حاضرين بأجسادنا وغائبين بعقولنا، مهووسين بمواقع التواصل الاجتماعي إلى حد أبعدنا عن عيش حياتنا. تمضي حياتنا في تصفُّح لا ينتهي، من فيسبوك إلى تويتر إلى إنستغرام إلى… وإلى… ولا تنتهي هذه الـ"إلى"!

المحزن في الأمر، هو أننا نمضي شبابنا فيما لا ينفع ونقتص أوقات التصفّح تلك، من أوقات كان من المفترض أن نقضيها مع أحبابنا، نجلس معهم، نتسامر، نتبادل أطراف الحديث، نحتسي فناجيل القهوة المعدة بحب، نرتشف شفطة بعد شفطة والابتسامة فاصلة بينهما.

لم تعد أحاسيس الألفة والود موجودة في تعاملاتنا، أصبحت تعاملاتنا على أرض الواقع جافة، جامدة ومصمتة كتلك الكلمات التي نكتبها على مواقع التواصل الاجتماعي. تلك الكلمات التي لا تظهر لمعة العين عند الفرح المفاجئ بسماع خبر مفرح أو أنين القلب عند معرفة خبر محزن.

نحن ندفع ثمن تعلُّقنا بمواقع التواصل الاجتماعي من حياتنا، من بركتها وروحانياتها.

إن أكثر المتضررين من هوس مواقع التواصل هم الأطفال الذين ينشغل آباؤهم وأمهاتهم عنهم بتلك المواقع، فبدلاً من أن يقضوا أوقاتهم مع صغارهم تجدهم مُمسكِين بهواتفهم ومنخرطين في عالمهم الافتراضي، مقتطعين فتاتاً من وقت تصفُّحهم للنظر إلى أطفالهم والابتسام لهم، ثم الرجوع مرة أخرى لتصفُّحهم وكأن تصفُّحهم هذا هو الأمر الأساسي في حياتهم وأطفالهم هم العارض الهادم للذات! لك أن تتخيل كيف سينشأ هؤلاء الأطفال وبأي نفسية سيكونون!

ليس الأمر في إضاعة الوقت فقط، ولكن من أشد تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي إمكانيتها تغيير عقلية أجيال كاملة. فمن السهل نشر الثقافات والأفكار المختلفة من خلال تلك المواقع، ومع تكرار نشرها مرة ومرتين ومائة مرة، ستعتادها العقول الضعيفة دون أن تميزها وتصبح عادة لهم وربما يحثوا الآخرين على فعلها.

وأشهر تلك الأمور، ثقافة "الأوبن مايند" المنتشرة حالياً والتي يرددها البعض دون أن يدري حتى ما تعنيه. وأيضاً، نشْر بعض الفتيات المحجبات صوراً لهن وهن من دون حجاب على إنستغرام. وكأن الأمور لأنها منتشرة أصبحت مباحة حتى لو كانت حراماً شرعاً!

معظم تلك الثقافات والأفكار تُصدَّر من الغرب ويتبعها شبابنا الشرقي دون النظر إلى تماشيها مع ثقافتنا أو ديننا.

تخيل معي لو أن الأمر تبدَّل، أو بمعنى أصح: لو رجع لأصله وأصبح الغرب هم من يأخذون عنا الثقافات والأفكار، لوجدت صور الحجاب والنقاب منتشرة على الإنستغرام ومواقع التواصل ولوجدتهم ينعتون من تلبس القصير والمبهرج بالرجعية التي لا تواكب العصر. وتلك الفتاة المحجبة التي كانت تنشر صورها علي إنستغرام وهي من دون حجاب، ستنشر صورها بالحجاب الكامل، وربما النقاب، ليس للالتزام بتعاليم الدين، ولكن لأنه أصبح موضة فقط.

في النهاية، لا أجد إلا أن الغلبة لشخصية الفرد نفسه ومدى تحمله للتخبط الحادث في مواقع التواصل. وسيطرته على المحتوى الذي يعرض عليه في تلك المواقع من خلال الصفحات والشخصيات التي يقوم بمتابعتها. وتنظيمه وقت تصفّحه وارتياده تلك المواقع. فمواقع التواصل فخ لا بد من الحذر منه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد