من يقف وراء هذه الجريمة البشعة "الأسد وداعش والقاعدة أم مجرد لصوص متوحشون؟"، سؤال مُلحّ اختلط بالغضب والحزن اللذين تولَّدا من عملية الاغتيال التي استهدفت ، بدم بارد، 7 من أعضاء مجموعة الإنقاذ السورية الشهيرة، المعروفة بـ"الخوذ البيضاء"، والتي كانت سبق أن رُشِّحت لجائزة نوبل للسلام.
الصدمة الكبيرة التي خلفتها هذه الجريمة جاءت بسبب الطبيعة السلمية لهذه المجموعة التي اشتُهرت بمسارعتها لإنقاذ ضحايا الغارات وحالات الطوارئ في المناطق السورية الخاضعة للمعارضة، فمن يقتل هؤلاء الرجال الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الآخرين؟!
ولاقت شجاعة "الخوذ البيضاء" استحسان الحكومات الغربية. وفي العام الماضي (2016)، كانوا على مقربة من الفوز بجائزة نوبل للسلام، ودفعوا ثمناً غالياً جراء دورهم المشهود هذا، فقد قضى أكثر من 200 من أعضاء المجموعة نحبهم فى السنوات الثلاث الماضية من إجمالي أعضائها البالغ عددهم 3300، ولكن هذه المرة جاءهم الموت من مصدر مجهول.
هكذا قُتلوا
صحيفة التلغراف البريطانية حاولت، في تقرير لها، معرفة من يقف وراء هذه الجريمة البشعة التي هزت المجتمع السوري، والتقت قيادات في "الخوذ البيضاء"، منهم حسام وزاز رئيس المجموعة في مدينة سرمين التي وقعت بها الجريمة.
يروي وزاز ما رآه عندما دفع باب المركز الذي وقعت به الجريمة، قائلاً: "أول شيء شاهدته هو الدم، كان في كل مكان، على الجدران وعلى الأرض وغارق في الفرش".
وقُتِلَ معظم العمال السبعة بطلق ناري في الرأس. ووُجدت جثثهم بالغرفة الرئيسة للمركز، حيث يأخذ هؤلاء الشباب عادةً بضع ساعات من النوم بين مكالماتِ طلب الإنقاذ.
ومنذ تأسيسها في عام 2014، أصبحت منظمة الخوذ البيضاء تمثل خدمات الطوارئ في العديد من مناطق المعارضة بسوريا.
وكان الموت دوماً يطارد هؤلاء المتطوعين الذين كانوا يتسابقون -مع قليل من التدريب والمعدات الأساسية فقط- كل يوم لمواقع الغارات الجوية أو حالات الطوارئ الأخرى؛ في محاولة لإنقاذ الأرواح.
ويقول جيمس لي ميسورييه، وهو ضابطٌ سابق بالجيش البريطاني ساعد المجموعة: "إذا كنت من عمال (الخوذ البيضاء)، فهناك احتمالية 1 من 6 للموت أو الإصابة المغيّرة للحياة".
وأضاف: "فرص الموت أو الإصابة بينهم أكبر بكثير من خطر الوفاة في الخنادق، وأكبر بكثير من الخطر الذي تتعرض له قوات المارينز بالفلوجة، وأكبر بكثير من العراق وأفغانستان".
وعادةً ما يلقى عمال "الخوذ البيضاء" حتفهم بسبب الغاز الكيماوي أو البراميل المتفجرة أو الغارات الجوية المزدوجة، لكنهم لم يكونوا مستهدفين بشكل مباشر مثلما حدث في مجزرة يوم السبت 12 أغسطس/آب بمحافظة إدلب. ولم يسبق أن قُتِلَ متطوعو "الخوذ البيضاء" من مسافة قريبة وبدم بارد هكذا!
القاعدة
وتمثل إدلب واحداً من آخر معاقل المعارضة في سوريا بعد عامين من التقدُّم من قِبل قوات نظام الأسد وحلفائه. وتقع المحافظة على الحدود التركية، وهي موطن لنحو مليوني مدني، من بينهم العديد من الذين فروا من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في حلب عندما سقطت المدينة بيد النظام أواخر عام 2015.
وقد تصارعت جماعات المعارضة المختلفة للسيطرة على إدلب لسنوات، لكن اليوم أصبحت المحافظة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، وهي جماعة جهادية يسيطر عليها أعضاء سابقون في "القاعدة".
وقال بريت ماكغورك، منسق التحالف الأميركي ضد تنظيم داعش: "محافظة إدلب هي أكبر ملاذ آمن لتنظيم القاعدة منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، وهذه تمثل مشكلةً كبيرة".
وتُعرَف مدينة سرمين داخل إدلب بأنها بؤرة خاصة لكل من التطرف والجريمة. فقد اشتبك مقاتلو هيئة تحرير الشام في الأسابيع الأخيرة مع ما قالوا إنها خلايا نائمة تابعة لـ"داعش" في المنطقة.
ومن الأسماء التي تقدم نموذجاً لمعاناة سرمين مع التطرّف الوحشي، حسن عبود، وهو أحد سكان سرمين المدينة وأحد قادة "داعش" الوحشيين، والذي قاد رجاله للقتال ضد الجماعات المتمردة الأخرى على الرغم من أنه فقد ساقيه في انفجار بورشة عمل لصنع القنابل. وقُتِلَ حسن عبود في أرض المعركة عام 2016.
وقال رائد الصالح، المدير العام لمنظمة الخوذ البيضاء، إن قتل رجاله فى سرمين يبدو أنه مخطط له بعناية. وأضاف رائد لصحيفة التلغراف: "قضى المجرمون وقتاً طويلاً في مراقبة المركز، والتخطيط لجريمتهم. لقد نُفِّذَت الجريمة باحترافية شديدة".
ومن المُرجَّح أن عملية القتل نُفِّذَت في نحو الساعة الواحدة صباحاً، وهي المرة الأخيرة التي فحص فيها عمال "الخوذ البيضاء" القتلى رسائلهم على تطبيق واتساب.
وقال الجيران بالمنازل المجاورة إنهم لم يسمعوا أي إطلاق نيران في الليل؛ مما يوحي بأن القتلة ربما استخدموا كاتمات صوت للبنادق. فيما ذكر عمال "الخوذ البيضاء" أنهم وجدوا فوارغ لرصاصات بحجم 9 ملم في مكان الحادث.
الجدير بالذكر أن سيارتي الإسعاف اللتين كانتا تقفان خارج المركز قد سُرِقَتا بعد إطلاق النار؛ لذلك من المُؤكَّد أن هناك اثنين من القتلة على الأقل قاما بتنفيذ الجريمة.
وسُرِقَت أيضاً 10 دراجات نارية؛ مما يشير إلى وجود مجموعة أكبر من المسلحين. وقد عُثِرَ على إحدى سيارات الإسعاف محروقةً على حافة حقل بعد ساعات من إطلاق النار.
ويجري التحقيق في الجريمة من قِبل مجموعةٍ تُسمى المحامين الأحرار، وهم مجموعة من المحامين والقضاة بإدلب، لكن ليس لديهم معدات طب شرعي أو خبرة في التحقيقات. وقال السكان المحليون إن لديهم أملاً ضئيلاً في معرفة ما حدث. وليس لدى إدلب قوة شرطة يمكنها أن تنظر في القضية.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد استنكرت الجريمة، ووصف بيان صادر عن الخارجية مقتلهم بـ"الجريمة الوحشية"، و"الفعل الجبان"؛ لأنه استهدف عناصر "الخوذ البيضاء"، "الذين يخاطرون بأرواحهم في سبيل إنقاذ الأرواح في مناطق خطيرة"، وفقاً لما ذكره موقع قناة "الحرة".
نظام الأسد
يبدو أحمد شيخو مرهَقاً، ففي الأيام الأربعة الماضية، قام رئيس منظمة الخوذ البيضاء في محافظة إدلب بترتيب جنازات لرجاله، وقام بزيارة أسرهم الحزينة، ووضع تدابير جديدة للسلامة يأمل من خلالها المحافظة على سلامة المتطوعين الآخرين. إنه يريد أن يتحدث عن أولئك الذين قُتلوا، وليس أولئك الذين قتلوهم.
يريد رئيس المنظمة بإدلب أن يتذكر محمد ديب الهر، المُتطوِّع البالغ من العمر 25 عاماً، والذي أنقذ طفلة من تحت أنقاض مبنى في موضع غير بعيد عن مكان وفاته يوم السبت 12 أغسطس/آب 2017، أو عبد الرزاق حسن، الذي كان يغني بشكل جميل في أثناء طهيه لرفاقه، وكان من المفترض ألا يكون موجوداً في النوبة المسائية التي قُتِلَ خلالها.
لكن بعد الإلحاح عليه، قال شيخو إنه يعتقد أن رجاله قُتِلوا على أيدي عناصر من نظام الأسد، الذين يعيشون إما خفيةً داخل إدلب وإما تسلَّلوا إلى المنطقة لتنفيذ عملية القتل.
وأضاف: "لقد استهدفونا مرات عديدة بضربات جوية"، مشيراً إلى أن مركز سرمين نفسه قد تعرَّض للقصف. وقال: "إنهم يريدون قتلنا؛ لأننا ندافع عن الشعب ونعرض جرائمهم".
وحمَّل آخرون في إدلب أيضاً نظام الأسد مسؤولية عملية القتل، قائلين إن عملاء الأسد كانوا يحاولون إثارة عدم الثقة بين الجماعات المعارضة؛ وربما ليجبروا عمال "الخوذ البيضاء" على التخلي عن استقلالهم والسعي للحصول على الحماية من الجهاديين؛ مما يجعلهم أقل استساغة للحكومات الغربية، حسبما نقل تقرير "التلغراف".
ولفت التقرير إلى أن نظرية النظام معروفة للغاية، لكن الأسد قد يكون أيضاً الجاني الوحيد الذي يمكن أن يُحمِّله الناس في إدلب المسؤولية بأمان؛ لأن من المخاطرة بشكل كبير الإشارة بأصابع الاتهام علناً إلى هيئة تحرير الشام وتحمُّل خطر رد الفعل الذي يمكن أن يتبع ذلك من قِبل هذه الهيئة التي تسيطر علي إدلب.
وقال إبراهيم الأصيل، وهو مُحلِّل سوري وزميل في معهد الشرق الأوسط، إنه يعتقد أن هيئة تحرير الشام قد نفذت عملية القتل أو غضّت الطرف بينما قامت مجموعة أخرى بتنفيذ ذلك. وأضاف: "أعتقد أن هيئة تحرير الشام هي المشتبه فيه الرئيس بهذه العملية".
وأضاف أن هيئة تحرير الشام تريد أن تكون ليس فقط القوة العسكرية في إدلب، ولكن أيضاً المسيطرة على المجتمع المدني. ونظراً إلى أن منظمة الخوذ البيضاء هي في المقام الأول مجموعة إنقاذ، فإن مكانتهم في المجتمع تعني أن الناس يتجهون أحياناً إليهم للفصل في المنازعات أو التعامل مع مسائل مدنية أخرى.
وتابع الأصيل قائلاً: "لقد أصبحوا قادة في المنطقة المحلية والناس يستمعون إليهم، وهذا تحدٍّ كبير لهيئة تحرير الشام ومشروعها في الهيمنة على إدلب. وأعتقد أن هيئة تحرير الشام تحاول استهداف المجتمع المدني ومنظمة الخوذ البيضاء هي واحدة من أقوى منظمات المجتمع المدني".
وأضاف أن القرار ربما لا يكون قد اتُّخِذَ من قِبَلِ قيادة هيئة تحرير الشام، وربما يكون خطوة أحادية الجانب من قِبل قائد محلي.
ردّ "تحرير الشام"
من جانبه، نفى عماد الدين مجاهد، المتحدث باسم هيئة تحرير الشام، مسؤولية الهيئة عن العملية وقال إنهم يشتبهون إما في خلية لـ"داعش" وإما في قوات نظام الأسد. وأصر على أن هيئة تحرير الشام تبذل كل ما في وسعها لحماية المدنيين بإدلب.
وقال: "نبذل قصارى جهدنا، وهناك دول كبيرة وضعت نظماً أمنية، لكنها تتعرَّض للاختراق. قارِن ذلك مع وضعنا في حالة الحرب والطوارئ".
السيناريو الأكثر ترجيحاً
ربما يكون التفسير الأكثر ترجيحاً لقتلى "الخوذ البيضاء": أنهم قُتِلوا في لحظةٍ من العنف المحلي لا يمكن تفسيرها من خلال الاتجاهات السياسية الأوسع نطاقاً في سوريا.
وقال سام هيلر، وهو زميل في مؤسسة القرن: "أحد ملامح الصراع عموماً وخاصة في الشمال الغربي لسوريا الذي تسيطر عليه المعارضة هو مدى الانقسام والمحلية بالمنطقة".
وأضاف: "سرمين مكانٌ قاس، وإذا كنت لا تعرف التفاصيل المحلية المحددة، فربما لا تصل إلى حقيقة ما حدث بشأن عملية القتل".
الجدير بالذكر أن مدينة سرمين والمناطق المحيطة بها لطالما كانت أرضاً خصبة لتجنيد عناصر "داعش" وكذلك "جند الأقصى"، وهي جماعة جهادية أصغر تجمع بين عناصر تنظيم القاعدة و"داعش"، ولا تزال مكاناً عنيفاً حيث يُخلط بين الأيديولوجية والجريمة.
ولطالما اختطفت العصابات المحلية، بشكل منتظم، أشخاصاً للحصول على فدية، ولسنوات قامت بتجارة سريعة في المركبات المسروقة.
وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر (أغسطس/آب 2017)، ظهر مقطع فيديو مرتعش من هاتفٍ جوال يُظهر اختطاف رجلين في طريقهما إلى سرمين.
ويُظهر الفيديو رجلاً معصوب العينين راكعاً على أرضية منزل يناشد أسرته دفع فدية 30 ألف دولار بالتزامن مع قيام خاطفيه بإعدام رجل ثانٍ أمام الكاميرا لتعزيز موقفهم. ودفعت الأسرة الفدية في النهاية.
وقد تكون عملية القتل نتيجةً لمزيجٍ مماثل من الوحشية والجشع من الناس الذين يريدون سرقة أسطولهم الصغير من الشاحنات الصغيرة والدراجات النارية، وكانوا على استعداد للقتل من أجل الحصول عليها.
وقال المدير العام لمنظمة الخوذ البيضاء رائد الصالح، إن عمليات القتل كانت لحظة مظلمة لمنظمة عانت بالفعل الكثير من الخسائر.
وأضاف: "إننا نتعرَّض للضرر، وكان لعملية القتل تأثير مؤلم على المتطوعين لدينا". وأضاف: "دفعنا ذلك إلى إعادة تقييم ما يجري حولنا".
وقد اتخذت المجموعة خطوات قليلة لحماية أفرادها، مثل وضع المزيد من الأضواء والكاميرات في مراكزها وزيادة نوبات العمل. لكن حتى مع هذا الخطر الجديد، قال الصالح إن عملهم سيتواصل في مجال الإنقاذ.
وأضاف: "إن دورنا في منظمة الخوذ البيضاء هو تعزيز المجتمع السوري وإظهار وجه سوريا الحقيقي".