"منذ متى صارت للشمس رائحة؟ ومنذ متى للروائح لون؟ منذ متى تتّحد الحواس لتغدو كياناً واحداً عملاقاً يفعل كل شيء؟ يسمع بأنامله ويتحسس بأذنيه… ويذوق بأنفه ويشمّ بلسانه؟ إنه أغسطس/آب..".
كنت أشعر بملل في ذات يوم، وقررت أن أقطع الوقت بقراءة شيء خفيف، وكنت سمعت عن روايات الدكتور أحمد خالد توفيق فقررت قراءة أحد أعماله.
تصفّحت قائمة كتاباته ووقع اختياري على رواية من روايات سلسلة فانتازيا بعنوان "حب في أغسطس"، كانت تبدو رواية خفيفة وبسيطة، وقد كانت كما توقعت فهي تتحدث عن قصة حب في اليابان، وهو ما أثار استغرابي بداية.. فلماذا اليابان؟! قلت في نفسي إنها رواية من روايات فانتازيا وكل شيء ممكن هناك!
تمضي الرواية بخفة ورقة وانسيابية ورومانسية وارفة بين متشيكو الفتاة الرقيقة وتوشيو الغريب الذي جاء ليعمل في مكتب محاسبة في المدينة، ثم تصل إلى منتصف الرواية الذي يأخذ انعطافة لم تكن لتخطر ببالك وأنت تشرع في قراءتها، فهنا نصل إلى صبيحة السادس من أغسطس/آب من العام 1945، وهو الوقت الذي قررت فيه الولايات المتحدة أن تُلقي قنبلة نووية على هيروشيما، وعندها -فقط عندها- أدركت لماذا اختار أن تكون اليابان مسرح قصته، عندها أصبح للأمر معنى.
في عام 1945 أثناء الحرب العالمية الثانية اتخذت أميركا قراراً بإلقاء قنبلة نووية على اليابان لإجبارها على الاستسلام، وهكذا ألقت أولى قنابلها التي سمّتها الولد الصغير على مدينة هيروشيما وقتلت 70000 شخص في ثوانٍ معدودة، وعدد مماثل قضى نحبه متأثرا بإصابته بتلك القنبلة، لكن يبدو أن (الولد الصغير) لم يشفِ غليلهم فأتبعوه بـ"الرجل البدين" في ناغازاكي بعد ثلاثة أيام، أي في التاسع من أغسطس/آب، وكان ضحيتها 80000 شخص هذه المرة.
كان الأمر فظيعاً للغاية حتى إن أحد الطيارين الأميركيين الذين كانوا مسؤولين عن إلقاء القنبلة قال: "يا الهي! ما هذا الذي فعلناه؟!".
وهكذا يتم قتل عشرات الآلاف من الناس؛ لأن الولايات المتحدة قررت أن تقوم باستعراض عضلات عالمي.
لم تعتذر الولايات المتحدة، ولم تدفع تعويضات، ولم تحاكَم على جرائم الحرب، ولم يتم وصمها بالإرهاب.
وإلى الآن هم يدافعون عن قرارهم هذا حتى أنني قرأت تعليقاً لأحد الأميركيين يقول فيه إنهم لو لم يلقوا القنبلة لاضطروا إلى اجتياح اليابان، وعندها كان سيكون عدد الضحايا أكبر بكثير! بالنسبة إليهم هم اختاروا أن يقتلوا عدداً أقل!
"إن الحياة نفسها أكثر جرأةً وأجمح خيالاً من الفنان… في الطبيعة يمكن أن يسقط نيزك من الفضاء الخارجي ليقتل الشرير، بينما لا يمكن أن يكتب الأديب ذلك وهو بكامل قواه العقلية.. في الطبيعة يمكن لأميركا أن تلقي قنبلة ذرية على مدينة سكنية عادية لمجرد أنها تريد تجربتها بينما لا يجسر أديب مجنون على تخيل ذلك".
كنا درسنا الحرب العالمية الثانية في المدرسة، وكنا عرفنا عن إلقاء قنبلة على هيروشيما وأخرى على ناغازاكي، ولكن عندما تقرأ عن المأساة في ثنايا الرواية يتولد لديك إحساس بأن هذه هي المرة الأولى التي تسمع بهذا الكارثة، فدروس التاريخ تعطى بطريقة باردة وجافة، وتستحفظ المعلومات من أجل سكبها على ورقة الإجابة في الإمتحان ليس أكثر. هنا الأمر مختلف.. هنا يصف لك الكاتب الكارثة بأدق التفاصيل ويجعلك تشعر ببشاعة ما حصل وكأنك تعيشه، ابتداءً من الوميض الأبيض الناصع الذي جعل الناس تظن أنها أصيبت بالعمى، ثم لحظة الحرارة القاتلة التي تلتها أعاصير لم تبقِ كائنات حية أو جمادات مكانها، كلها اقتلعتها اقتلاعاً، وقد جاء معها غبار غطى كل شيء قبل أن ينسحب تاركاً المدينة تحت سحابة سوداء كبيرة تنحت بدورها لتفسح المجال لقادم أخطر… النار التي أتت على كل شيء في طريقها، والناس يصرخون ويتدافعون.. كانوا لا يرون شيئاً فقد أصيبوا بالعمى وكانوا لا يعرفون من أين تأتي النيران وإلى أين يمكن أن يهربوا.
هنا أناس تفحموا لحظياً، أناس حمضت الحرارة الإشعاعية صورهم على الإسفلت، وعشرات آلاف آخرين تركت النار بصمتها على أجسادهم فيما يسمى بـ"مخالب الشيطان"، هنا أطفال كانت تصرخ وآخرون لم يمهلوا ليصرخوا حتى، هنا أُم كانت تنبش في الرماد حتى وجدت عظمة صغيرة يتصاعد منها الدخان وقد أصيبت بمس من الجنون؛ إذ إن هذا كل ما تبقى من ابنها، هنا أناس أصيبوا بتلوث إشعاعي يحمل ما يحمل من أمراض وويلات.
من قال بأن الرواية يجب أن تكون ضخمة لتترك أثراً؟ هذه رواية صغيرة تنهيها في جلسة واحدة، ولكنها تترك أثراً كبيراً، وقد ينسى المرء تفاصيل الرواية ولكنه أبداً لا ينسى تأثيرها فيه، فهي رواية تضعه وجهاً لوجه أمام إنسانيته، مما يجعلها رواية رائعة.
أدرك أن معظم صباحاتنا باتت تشبه ذلك الصباح في هيروشيما، وأن البشاعة والقتل والدمار صارت هي السمة الغالبة، ولكن الضحايا يستحقون أن نذكّر بمأساتهم، ولا يجب أن ينسى أحد، فجرائم من هذا النوع هي جرائم ضد الإنسانية، سواء حصلت في اليابان أو في البوسنة أو في أميركا اللاتينية، أو في عالمنا العربي المنكوب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.