بعد سنوات من تحوله لساحة نفوذ وصراعات بين القوى الإقليمية والدولية، يشهد العراق صعوداً لروح قومية جديدة، يتبارى فيها السياسيون في النأي بأنفسهم عن رعاتهم الخارجيين، بينما يبدو أن هناك متغيراً خارجياً جديداً يطرأ قد يقلب الساحة، هو الدور الإماراتي.
منذ الغزو الأميركي للعراق، أصبحت السياسة الداخلية بالبلاد قضية دولية. فتعدُّد تمثيل جماعات المصالح في الحكومة المركزية بالبلاد- الذي يهدف إلى ضمان درجة من التعددية في أعقاب إدارة صدام القمعية- يتسبب في تعقيد بناء ائتلاف بينها؛ مما يترك مجالاً للدول المجاورة لإقحام أجنداتها المتنافسة، حسب تقرير لمركز ستراتفور الأميركي.
وأشار التقرير إلى أن القوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، تقدم دعماً مالياً وسياسياً للعديد من الأطراف العراقية، وأحياناً، للميليشيات التابعة لها.
ولكن بينما تقترب الانتخابات الإقليمية والبرلمانية، المقرر مبدئياً أن تُعقد عام 2018، قد لا تكون تلك المساعدات موضع ترحيب كما كانت من قبل. والآن بعد أن استردت القوات العراقية الموصل من تنظيم داعش، فإن الحكومة ببغداد لديها فرصة فريدة لنقل البلاد إلى الأمام، في ظل تراجع المشاكل الأمنية التي كانت تعيقها في السابق.
وكجزء من هذا الجهد، يدافع العديد من السياسيين عن القومية العراقية ويدينون الفساد ويرفضون التأثيرات الخارجية لتلبية مطالب الجماعات الطائفية والعرقية. وحسب التقرير، فإن السياسة العراقية تتطور، وتتطور معها العلاقات بين القوى الأجنبية والأحزاب المحلية.
تغير الولاءات
هناك تحول مستمر في المجتمع الشيعي بالعراق؛ ففي الشهر الماضي (يوليو/تموز 2017)، خسر المجلس الأعلى الإسلامي في العراق -وهو حزب شيعي تأسس عام 1982 على نفس مبادئ الثورة الإيرانية- زعيمه عمار الحكيم (نجل الرئيس الراحل للحزب عبد العزيز الحكيم).
وكان الحكيم قد انشق أخيراً عن المجلس في يوليو/تموز، بعد سنوات من تصاعد الخلافات مع رؤساء الحزب الثلاثة الآخرين.
ودون إضاعة أي وقت، شكل سليل آلِ الحكيم مجموعة جديدة، حزب "تيار الحكمة الوطني".
كان هذا الانقسام جزءاً من محاولة الحكيم للحفاظ على قدرته التنافسية قبل الانتخابات القادمة، من خلال التودد للناخبين الشباب وبناء مصداقيته القومية.
يقول تقرير ستراتفور: "ربما يؤتي الجهد ثماره، فالحكيم وريث لعائلة دينية شيعية ذات نفوذ وعلاقات قوية في العراق".
ويمكن للحزب الجديد أن يؤثر على أداء المجلس الأعلى الإسلامي بالعراق في الانتخابات المقبلة. غير أن إيران واثقة بأن علاقاتها العميقة بعائلة الحكيم ستواصل خدمة مصالحها في العراق حتى لو حاول حزب تيار الحكمة الوطني وزعيمه تقليص علاقاتهما مع طهران.
هل ينقسم الحزب الحاكم؟
المجلس الأعلى الإسلامي العراقي ليس الحزب الشيعي الوحيد الذي يعاني الصراع الداخلي. فحزب الدعوة المنافس يشهد أيضاً نزاعاً داخلياً يمكن أن يهدد نتائجه في انتخابات عام 2018.
منذ عام 2006، قاد نوري المالكي (رئيس وزراء العراق آنذاك) الجناح الأكثر قوة في حزب الدعوة. لكن موقفه المؤيد لإيران، المناهض للولايات المتحدة، تسبب في انقسام الحزب.
وحسب تقرير المركز الأميركي، فقد كان رئيس الوزراء العراقي العبادي يفكر في الانسلاخ من "الدعوة" لتشكيل ما يسمى حزب التحرير والبناء.
وهذه المجموعة المرتقبة، التي سميت هذا الاسم؛ نظراً إلى الانتصار الذي حققه العبادي على تنظيم داعش، من المفترض أنها ستنضم إلى قائمة "دولة القانون"، وهو ائتلاف شكله المالكي في عام 2009.
على الرغم من أن العبادي نفى شائعات تأسيس حزب جديد، فإن التنافس بينه وبين المالكي سوف يتزايد مع اقتراب انتخابات عام 2018. وكان المالكي قد قام بجولة في المحافظات الشيعية بالعراق؛ لتحسين مكانته بين أعضاء الطائفة، بينما كان يعمل أيضاً على تلميع صورته عن طريق رحلات إلى الخارج، لروسيا على سبيل المثال.
وقد انتقد المالكي العبادي في أثناء سفره، واتهمه بالفساد ومخالفة القانون. ولكن في الوقت نفسه، لا يستطيع المالكي أن يخسر عضوية العبادي في "الدعوة" والقاعدة الشعبية التي يقدمها رئيس الوزراء للحزب. وإذا ترشح العبادي منفرداً في الانتخابات المقبلة، فإن الانشقاق سيكون محاولة واضحة للنأي بنفسه عن المالكي والنفوذ الإيراني الذي يمثله.
المتمرد الأكبر
أما الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، فقد اتخذ خطوات أقوى؛ فالرجل الذي أسس جيش المهدي -إحدى المليشيات الشيعية التي اشتُهرت بمعاركها مع الاحتلال الأميركي وتورطها بالصراعات الطائفية في الوقت ذاته- طالب بكل جرأة، مؤخراً، بحل "الحشد الشعبي"، المقرَّب إلى الحرس الثوري الإيراني ودرَّة تاج الإمبراطورية الإيرانية، إضافة إلى زيارته لغريمة إيران الأولى، المملكة العربية السعودية.
وحسب تقرير لمجلة "فورين آفيرز" الأميركية، فإن إيران مستاءة من أن بعض الشيعة العراقيين نأوا علناً بأنفسهم عن طهران، رغم أنها راعيهم الإقليمي؛ لأن وضعهم كقوى مستقلة، بعيداً عن وصايتها، سيجعلهم يفوزون بأصوات الناخبين العراقيين.
ونقل تقرير لموقع "إرم نيوز" عن موقع "مثلث"، القريب من دائرة التيار الأصولي المتشدد بإيران، أن "عمار الحكيم والصدر تمردا على إيران وأدخلا العراق في سياسة جديدة".
وحسب "فورين آفيرز"، "تشعر طهران بقلقٍ خاص من أنه بعد طرد تنظيم داعش نهائياً من العراق، فإن الحوار السياسي الذي سيحدث بين مختلف الفصائل السياسية في البلاد، وكذلك بين المجموعات العرقية والطائفية بالعراق، حول تقاسم السلطة، سوف يستعبدها؛ مما يعرض مصالحها طويلة الأجل بالسيطرة الإقليمية للخطر".
وهناك الآن نقاش في طهران حول ما إذا كان الاتجاه في بغداد هو مجرد زوبعة فنجان، أو يتعين على طهران التكيف مع الوضع الجديد وتعلُّم العيش مع قومية شيعية عراقية متمردة، حسب تعبير "فورين آفيرز".
بناء الجسور إلى السلطة
وعلى الرغم من صراع الفصائل الذي يحاصره، لا يزال تحالف الائتلاف الوطني الشيعي متماسكاً. وسوف تبدأ الشراكات داخل المعسكر الشيعي في الظهور بشكل متزايد؛ إذ تحاول الأحزاب اجتذاب أكبر عدد ممكن من الناخبين قبل الانتخابات.
وكان الزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر قد أعلن، مؤخراً، عن اتفاق بين حزبه وائتلاف القائمة الوطنية بقيادة إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي السابق ونائب الرئيس العراقي الحالي (شيعي علماني).
ورغم أن الشيعة يتمتعون بنفوذ انتخابي كافٍ للتغلب على تحديات الأحزاب الكردية والسنّية العربية في البرلمان، فإن ذلك لم يمنعهم من محاولة بناء تحالفات مع هذه الأحزاب؛ من أجل تعزيز سلطتهم التشريعية.
فقد قدم الزعماء الشيعة، مثل الحكيم والمالكي والعبادي والصدر، مقترحات للأحزاب السنّية والكردية على أمل إقامة روابط أعمق. أظهر الصدر حرصه على الاستفادة من قاعدة الناخبين السنّة مؤخراً، بقبول دعوات لزيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية وولي عهد أبوظبي.
الحركة الصدرية ليست مقرَّبة من إيران مثل العديد من الجماعات الشيعية. وبالنسبة للرياض، يمثل الحزب وسيلة للوصول إلى المشهد السياسي في العراق وتقويض تأثير طهران الزاحف بالبلاد. بالإضافة إلى ذلك، فإن إقامة علاقات مع الصدريين قد يقدم للحكومة السعودية وسيلة لبناء علاقة أفضل مع الطائفة الشيعية الموجودة في المملكة.
ماذا يفعل السنّة؟
وفي الوقت نفسه، لا تزال الأحزاب العربية السنّية العراقية عالقة في محاولة اللحاق بنظيراتها الشيعية التي تتمتع بقاعدة انتخابية أكبر. وتحقيقاً لهذه الغاية، كشفت مجموعة من الأحزاب السنّية النقاب عن تحالف القوى الوطنية العراقية في يوليو/تموز.
ويضم الائتلاف الجديد 300 شخصية سنّية، بينهم نواب وزعماء قبائل من المحافظات التي يسيطر عليها تنظيم داعش، بقيادة سليم الجبوري، الزعيم السنّي البارز ورئيس مجلس النواب العراقي. ويحظى كل حزب من الأحزاب المكونة للكتلة بدعم محلي قوي ويتلقى مساعدات خارجية، بدرجة ما، من القوى السنية في الشرق الأوسط مثل تركيا ودول الخليج العربي.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، تحاول العديد من المجموعات أن تنأى بنفسها عن داعميها بالخارج؛ في محاولة لركوب موجة القومية العراقية.
ويهدف التحالف الجديد إلى إعطاء السنّة العراقيين بداية جديدة بعد فشل محاولة عقد مؤتمر لمناقشة مستقبلهم ومستقبل بلدهم؛ بسبب الجدل حول الداعمين الأجانب للأحزاب السنية بشكل جزئي.
الإمارات والأكراد
أما بالنسبة للمجتمع الكردي في العراق، وهي دائرة انتخابية ذات أغلبية سنّية، يقارب حجمها البرلماني تمثيل السنّة العرب تقريباً، فإن العلاقات مع الحكومات الأجنبية تسبب مشاكل.
تختلف الجماعات الكردية فيما بينها حول الاستفتاء الوشيك لتقرير ما إذا كان يتعين على كردستان العراق إعلان استقلالها عن العراق.
بالإضافة إلى ذلك، زادت دولة الإمارات، مؤخراً، دعمها المالي والسياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو الحزب الحاكم في كردستان العراق، وأكبر حزب كردستاني بالبرلمان، والمؤيد الرئيس للاستفتاء كذلك.
وكانت الإمارات قد ألقت بثقلها فى الاستفتاء المقرر إجراؤه يوم 25 سبتمبر/أيلول 2017، كطعنة موجهة لإيران وتركيا اللتين تعارضان بشدةٍ، إقامة دولة كردية مستقلة.
هل ستجرى الانتخابات أصلاً؟
ومع استعداد العراقيين للانتخابات التشريعية الرابعة منذ عام 2003، لا يزال الوضع الأمني غير مستقر في بلدهم، وإن كان قد تحسن كثيراً. وقد اعتبرت اللجنة العليا المستقلة للانتخابات العشرات من المناطق في العراق، ومعظمها بالأراضي السنية، غير مستقرة بما فيه الكفاية للقيام بالاستعدادات الضرورية للتصويت، وتعد المخاوف الأمنية العالقة هي السبب الرئيس لإجراء الانتخابات الإقليمية والبرلمانية في الوقت نفسه.
وعلاوة على ذلك، لا يزال المشرعون بمجلس النواب في العراق بحاجة إلى وضع قانون انتخابي جديد قبل إجراء التصويت، وبعد ذلك ستحتاج اللجنة إلى نحو 6 أشهر لوضع اللمسات الأخيرة على الخطط الخاصة بالتصويت.
وفي الوقت نفسه، ستتواصل جهود بناء الائتلاف، مُقدِّمةً لمحة عن التحالفات التي ستظهر بعد الانتخابات. وحينها، سيبدأ الصراع الحقيقي على السلطة بين المالكي، والعبادي والحكيم وهم يتنافسون على الحصول على منصب رئيس الوزراء -المنصب السياسي الرئيس في العراق- لمرشحهم المختار.
وطبقاً للدستور العراقي، فإن البرلمان المنتخب حديثاً هو المسؤول عن اختيار مجلس الرئاسة، الذي يختار بدوره رئيس وزراء البلاد. وسوف يمتلك الحزب الذي يفوز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية هذا التفويض عند اختيار رئيس الوزراء.
ومن الآن فصاعداً، ستحاول الأحزاب العراقية، من شتى أنحاء الطيف السياسي والعرقي والطائفي، تحقيق التوازن بين إرضاء الناخبين الوطنيين وإرضاء المؤيدين الأجانب الذين يعتمدون على دعمهم.