رغم التغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها معركة الجيش العراقي في الموصل ضد تنظيم داعش، فإن معركة تلعفر المقبلة هي الأهم وقد تكون الأخيرة؛ فالكل سيقاتل الكلّ هناك، في تلك المدينة التي تضم نحو 300 ألف نسمة، وتقطنها أغلبية سنّية وأقلية شيعية وكرداً وتركماناً وعرباً، وتحتل مساحة تقدر بنحو 28 كم مربعاً، بحيث تبدو أنها نموذج مصغر للبلاد، يجمع الموازييك البشري العراقي وكأنها بغداد الصغرى.
تلعفر التي يسيطر عليها تنظيم داعش وتعدّ آخر معاقله بعد تحرير مدينة الموصل قبل أسابيع، تحظى بموقع استراتيجي وتنوع ديموغرافي، يجعل منها محور صراع إقليمي في المنطقة.
فتركيا التي تربطها صلات بالتركمان السنّة في تلعفر، تعارض مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي، المدعومة من إيران، في المعركة جنباً إلى جنب الجيش العراقي.
وقد تكون هذه اللحظات الأخيرة قبل انطلاق معركة تلعفر الحساسة، مع العلم أن المتحدث السابق باسم وزارة الدفاع، العميد محمد الخضري، كان قد أعلن انطلاقها قبل أيام، إلا أنه أقيل بعد حديثه بساعات بقرار من الوزير، دون معرفة ما إذا كان إعلانه خاطئاً أم كان كشفاً عن خطوات لم ترغب السلطات في نشرها الآن.
وقال الناطق الرسمي باسم قيادة العمليات المشتركة في العراق العميد يحيى رسول، في تصريح خاص لـ"عربي بوست"، إن معركة تلعفر لم تبدأ بعدُ حتى الآن.
وأضاف: "إن خطة عملية تحرير تلعفر اكتملت، وتجري التحضيرات اللازمة للعمليات العسكرية، وقمنا بضربات مستمرة منذ فترة؛ بهدف استنزاف عناصر التنظيم الإرهابي".
وبعيداً عن تضارب التصريحات بشأن بدء العمليات العسكرية في تلعفر، فإن حساسية العملية ككل؛ بسبب تنوع المدينة الديموغرافي وأهميتها الجغرافية، يرفع حدة القلق مما سيدور على الأرض في المدينة.
معركة حساسة
القضية -وكما تُظهر معادلة القوى المتصارعة في تلعفر- ستكون حساسة للغاية، لا سيما أن التركيبة الاجتماعية الخاصة بالمدينة واحتواءها على طوائف منوّعة يزيدان من خطورة التداعيات التي قد تنتج عنها في المرحلة المقبلة، وفق ما يؤكده خبراء ومحللون.
ويقول الباحث الاجتماعي رافع الحديدي، في حديثه لـ"عربي بوست": "تكمن خطورة وحساسية معركة تلعفر بمشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في معركة تلعفر، وهي نفسها التي شاركت في معركة الموصل وفق ما أعلنه الناطق الرسمي باسم (الحشد)، أحمد الأسدي، قبل أسبوع".
وأضاف: "ومن هذه الميليشيات، ميليشيا علي الأكبر وأبو الفضل العباس ولواء قاصم الجبارين وحزب الله وبدر وعصائب أهل الحق، وميليشيات أخرى ارتكبت أعمالاً انتقامية وإعدامات ميدانية في مدن عراقية، دخلتها قبل عام وقامت بأعمال قتل وحرق ونهب للممتلكات وإخفاء قسري لمئات الرجال والشباب".
أهداف إيران من المعركة
ويوافق المحلل السياسي مازن الصميدعي، الحديدي قوله، موضحاً لـ"عربي بوست"، أن "تلعفر لها أهميتان؛ أولاهما ديموغرافية والتي سبق ذكرها، والثانية أهمية جغرافية استراتيجية، حيث تقع في الجزء الشمالي الغربي من البلاد غربي الموصل على الطريق المؤدي إلى الأراضي السورية ولا يفصلها عن الحدود التركية والسورية أكثر من 60 كيلومتراً".
أما عن أهداف إيران والإصرار على مشاركة الحشد الشعبي، فيرى الصميدعي أن معركة تلعفر تثير مخاوف أكبر، متابعاً: "إن تلعفر مهمة جداً بالنسبة لإيران تحديداً، فهي تدفع باتجاه سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي التي تدعمها على المدينة، وبعد انتهاء المعركة سيفتح ذلك الطريق أمام الميليشيات المدعومة إيرانياً انطلاقاً من الحدود الإيرانية في محافظة ديالى حتى الحدود السورية شمال غربي العراق، وهذا يعني أنها ستصبح منطقة نفوذ إيرانية بامتياز في المستقبل القريب".
وكان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، قد حسم أمر مشاركة الحشد الشعبي في المعركة، مؤكداً أنه سيقاتل إلى جانب الجيش العراقي ومختلف الأجهزة الأمنية.
وقال العبادي إن الحشد الشعبي مؤسسة تقودها المرجعية الشيعية والدولة، رافضاً في الوقت نفسه أن يتم حله، فيما بدا كأنه ردّ على دعوات كان قد أطلقها زعيم التيار الصدري، المعارض لمشاركة الحشد الشعبي.
هل تتدخل تركيا؟
وكان نائب رئيس الوزراء المتحدث باسم الحكومة التركية، بكر بوزداغ، قد صرّح في 15 أغسطس/آب 2017، عما إذا كانت أنقرة ستدعم العملية العسكرية في قضاء تلعفر، قائلاً إن "أولوية بلاده تطهير القضاء من (داعش) وتسليمه لأصحابه الأصليين".
وأضاف: "إن شاء الله، سوف يتاح للتركمان الشيعة والسنّة العيش بحرية كما كان سابقاً، على أراضي أجدادهم".
وتاريخ تلعفر حافل بالأحداث منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وتحظى أية أحداث مرتبطة بالمدينة باهتمام إقليمي، خاصة من قبل تركيا؛ نظراً إلى موقعها الجغرافي وتركيبتها السكانية المشار إليها آنفاً.
وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ميليشيات الحشد إذا ما أشاعت الخوف في تلعفر على حد وصفه، آنذاك، ملمحاً حينها "بردّ مختلف لبلاده، في حال ارتكبت هذه الميليشيات أعمال انتقامية ضد التركمان في المدينة على غرار ما حدث في الفلوجة وتكريت وبيجي وديالى وجرف الصخر، في عمليات عسكرية سابقة".
وبرزت مخاوف أنقرة بشكل أبرز، حين أقامت ميليشيات الحشد الشعبي في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حاجزاً بطول 40 كيلومتراً عبر الصحراء غرب الموصل، وتعاونت مع قوات البيشمركة الكردية بالقرب من تلعفر، وقادت حملات استطلاع في ضواحي المدينة استعداداً للمعركة، وفق ما ذكرته صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية.
ما القوات المشاركة في تلعفر؟
وكشف ضابط رفيع في قيادة عمليات نينوى لـ"عربي بوست"، رفض الكشف عن اسمه، أن القوات التي ستشارك في المعركة هي:
1- الجيش العراقي: "الفرقة 16، مهمتها تطويق المدينة من الخارج تطويقاً كاملاً، وإسناد القطعات المتقدمة من جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي بغطاء ناري من المدفعية الثقيلة، والتغطية الجوية، وقصف دفاعات وتحصينات تنظيم داعش بضربات مكثفة خلال المعركة، ثم تأمين محيط المدينة بعد المعركة".
2- قوات جهاز مكافحة الإرهاب: "وهي قوات خاصة مدربة تدريباً عالياً على يد القوات الأميركية ومجهزة بأحدث الأسلحة والآليات والمعدات العسكرية، مهمتها اقتحام الخطوط الأمامية لتنظيم داعش وتطهير الأحياء من سيطرة التنظيم، بما يعرف بالتطهير ثم التطويق والعزل، ثم التقدم نحو الأحياء الأخرى.
وتعتبر القوة الضاربة للقوات العراقية، وستتمحور مهامها عند الجانب الشرقي للمدينة، وتنتهي مهامها بعد المعركة؛ فهي قوات خاصة غير معنيّة ببسط نفوذها على الأرض بعد المعركة".
3- الشرطة الاتحادية: "مهمتها اقتحام المدينة من المحور الجنوبي الشرقي، وإسناد قوات مكافحة الإرهاب خلال الاشتباك ضمن الخطوط الأمامية، فضلاً عن بسط نفوذها بعد تطهيرها من قِبل جهاز مكافحة الإرهاب. وحين تنتهي المعركة، تفرض سيطرتها على المنطقة، إلى جانب الشرطة المحلية والحشد الشعبي".
4- الحشد الشعبي: "وهي قوات شعبية تأسست بفتوى من المرجعية الدينية في النجف منتصف عام 2014، مهمتها توفير الإسناد الناري للقوات المقتحمة للمدينة من الجيش ومكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية، وتوكل إليها مهمة اقتحام المدينة من المحورين الجنوبي والغربي للمدينة، وقصف مواقع داعش بالصواريخ لتغطية تقدّم القوات العراقية كما فعلت في معركة الموصل".
وتابع قائلاً: "أما المحور الشمالي، فسيكون من مهمة قوات الجيش العراقي، الفرقة 16 التي ستطوق المدينة بالكامل من جهة وستقتحمها من المحور الشمالي من جهة ثانية، فضلاً عن توفير الإسناد الناري الجوي والأرضي للقطعات المتقدمة نحو تلعفر".
مشاركة قوات متباينة "خطوة صحيحة"
وفي الوقت الذي تواجه فيه مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي انتقادات من عدة جهات خارجية وداخلية، بما فيها قوى شيعية سياسية بالعراق مثل مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري- إلا أن السلطات العراقية ترى في مشاركة "قوات متباينة" بمعركة تلعفر خطوة صحيحة.
وفي هذا السياق، قال النائب في البرلمان العراقي عن محافظة نينوى طالب المعمار، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن "اشتراك القوات المختلفة في المعركة هو إجراء صحيح؛ حتى لا يحسب تحرير المدينة لصالح طرف معين دون آخر"، موضحاً أن جميع القطعات العسكرية التي شاركت في تحرير الموصل تشارك في معركة تلعفر.
وتابع: "الخطة العسكرية التي وُضعت تضمنت تجزئة تلعفر إلى قواطع، وسيكون على عاتق كل قوة من القوات المشتركة جزء معين من المدينة، فمثلاً حينما دارت معركة الموصل كان جهاز مكافحة الإرهاب يقاتل في الجانب الأيسر من المدينة، وفي الجانب الأيمن كانت قوات الشرطة الاتحادية هي من تقاتل".
ويرى المعمار أن عمل القوات المشتركة في قاطع واحد سيؤدي إلى تداخل بينها؛ ولذلك فإن تقسيم المدينة إلى أجزاء ومهمات محددة لكل قوة سيكون أفضل.
ونفّذ طيران الجيش العراقي ضربات جوية على أهداف وتحصينات لتنظيم داعش في مدينة تلعفر؛ لكسر تحصيناته، وذلك تمهيداً لساعة الصفر التي ستنطلق فيها القوات العراقية نحو المدينة برياً لبدء المعركة.
انتهاكات الميليشيات
ويقول الحقوقي العراقي سامي الجويني إن "الجميع يتذكر ما فعلته ميليشيات الحشد الشعبي في جرف الصخر وديالى والفلوجة وتكريت وبيجي، وهذا ما نخشى أن تكرره في تلعفر، وقد وثقنا انتهاكات خطيرة في معارك سابقة ولا أستبعد ذلك".
ويوضح الجويني سبب تخوفه الكبير، قائلاً لـ"عربي بوست"، إن "تلعفر تشكل أهمية استراتيجية للعراق وتركيا بشكل خاص، وأنقرة تتخوف من تمدد الميليشيات في هذه المدينة التي يقطنها المكون التركماني إلى جانب مكونات أخرى، وإذا ارتكبت الميليشيات مجازر بشرية فربما تشتعل المنطقة برمتها"، حسب قوله.
وكانت مدينة تلعفر أحد أبرز معاقل المسلحين العراقيين بعد مدينة الفلوجة، الذين حاربوا غزو القوات الأميركية منذ عام 2003 حتى انسحاب الأخيرة من البلاد عام 2011، وشهدت عملية عسكرية واسعة شنتها الولايات المتحدة ضدها في سبتمبر/أيلول عام 2005، شارك فيها نحو 5 آلاف جندي أميركي.
وسيطر تنظيم داعش على بلدة تلعفر في 15 يونيو/حزيران 2014، بعد سيطرته على مدينة الموصل بـ5 أيام تقريباً، وهي أول بلدة ذات ذات أهمية استراتيجية وديموغرافية يسيطر عليها التنظيم بعد الموصل مباشرة .
وتقدمت ميليشيات الحشد الشعبي نحو حدود المدينة منتصف عام 2016، بعد انتهاء معركة الفلوجة بسيطرة القوات العراقية عليها، واستمرت قوات الحشد في الانتشار بالمناطق الصحراوية المحاذية لتلعفر، وصولاً إلى الحدود السورية حتى الآن .
وحالياً تعد المدينة آخر معقل لتنظيم داعش في محافظة نينوى ( 450 كم شمال العاصمة بغداد )، بعد استعادة القوات العراقية مدينة الموصل من قبضة التنظيم في يونيو /حزيران 2027 إثر معارك ضارية استمرت أكثر من 8 أشهر.