ما بينَ اغتيالٍ واشتباك التقَت الأرواح

مثل اليوم على غير عادته، استيقظ صباحاً ولم يخرج من المنزل "عامر كثير الحركة" كان هادئاًً يومها، طلب من أمه أن تجلس معه، لا تزال والدته تذكر جيداً ما دار بينهما وقتذاك من أحاديث ومزاح وتذكر حينما طلب منها أن تزغرد لأجله إن استشهِدَ، تحدثت معه وهي تخفي استغرابها من حديثه الذي كانت الشهادة محوره معظم الوقت.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/07 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/07 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش

مثل اليوم على غير عادته، استيقظ صباحاً ولم يخرج من المنزل "عامر كثير الحركة" كان هادئاًً يومها، طلب من أمه أن تجلس معه، لا تزال والدته تذكر جيداً ما دار بينهما وقتذاك من أحاديث ومزاح وتذكر حينما طلب منها أن تزغرد لأجله إن استشهِدَ، تحدثت معه وهي تخفي استغرابها من حديثه الذي كانت الشهادة محوره معظم الوقت.

قلِقَ قلبها، لأول مرة تخشى أن عامر ينتظر أجلاً قريباً، فطلبت منه ألا يخرج لأي مكان يومها، رغم انتهاء منع التجول وهدوء الوضع قليلاً؛ لكنها لم تكن راضية حين غادر بعد الظهر "لمشوار" قريب كما قال، وعاد بعد قليل وقد بدت عليه علامات القلق، وعندما سأله والداه عن السبب أجاب بأن صديقه لا يجيب على هاتفه، ثم جلس مع أمه مجدداً وأخرج من جيبه شريطاً اشتراه عند خروجه، أدار المسجّل وصدحت أغنية "سراج الأقصى".

عادَ للحديث حول الشهادة وطلب من والدته أن تدعو له بنوالها، فقالت له ممازحة أن يؤجّل الموضوع بعد تخرجه؛ لأنه لم يبقَ على امتحانات الجامعة سوى بضعة أيام فأجابها :"انسي هذه الشهادة ليست مهمة، شهادة الآخرة هي ما أريد يا أمي".

الرابعة والنصف عصراً

خرج من المنزل على عجل، وتوجه نحو سيارته، ولم ينسَ أخذَ الشريط الجديد، كانت جملته ترن في أذن أخته أماني التي رفضت كيّ قميصه "شكلي رح أستشهد اليوم" شعورٌ ما دفعها لتلبي طلبه.

بعد مغادرته بنحو دقيقتين، سمعت عائلته كما كل الحيّ دوي انفجار، صاح معه لا إرادياً صوت الأم "عامر! عامر يا الله.. عامر" وبسرعة سابقت حروف اسمه دب انفجار ثانٍ.. ثم ثالث.

"شيءٌ ما انتزِع من أحشائي، لا أدري ما هو لكن قوة غريبة كأنها اقتلعت منّي شيئاً" قال والد عامر واصفاً ذاك الشعور الذي اجتاح جسده بمجرد سماعه الانفجار وقبل أن يدرك كلمات زوجته قال هو أيضاً لدى سماعه صوت الانفجار الأول: "عامر، هذا عامر.." كان الانفجاران الثاني والثالث سريعين كشعور الأبوين بفقد ابنهما!

كانت الطائرة الإسرائيلية من نوع "أباتشي" قد حددت الهدف فور تحرُّك السيارة البيضاء من أمام المنزل، وعلى ظهرها إشارة "إكس" وضعها أحد الجواسيس ليلاً، مشت السيارة شرقاً تجاوزت الدوار، متجهة نحو "شارع الحدادين" صعوداً باتجاه وسط البلد، وبمجرد سقوط الصاروخ الأول بجانبها همَّ عامر بتغيير المسار -بينما مسجل السيارة يصدح بأنشودة "يا شوق القلب للقدس وديني"، كان الصاروخ الثاني الذي أصاب مقدمة السيارة وأحرقها مباشرة أسرع من سيارته التي ما لبثت نيران الصاروخ الثاني أن توقدها حتى سقط الثالث بفارق أقل من ثانية، هبّت النيران بعنف وصهرت السيارة كما صهرت معها جسد عامر في بضع دقائق؛ ليصبح ذلك الوجه الأبيض المنير بلحية خفيفة بلا معالم.

في تلك اللحظات تردّدت أحاديثه سريعاً في أذن والدته.. وصورته تتماثل أمام والده محاولاً استيعاب ما جرى لابنه الآن، وفي تلك الأثناء أيضا كانت روحه قد فارقت الحياة متحررة من نيران الصواريخ.

في تلك اللحظات أيضاً كان السبعة جواسيس الذين توزعوا في الحي لرصد حركته قد تفرقوا، كلٌ باتجاهٍ مختلف منجزين أدوارهم الاستخباراتية في المَهَمَّة التي أشرف عليها شارون بنفسه.

كان يوماً من أيام الانتفاضة الثانية – الخامس من أغسطس/آب عام 2001، (5/8/2001) حيث كان موعد عامر الحضيري مع الشهادة التي لطالما تمناها، وبعد دقائق قليلة على اغتيال عامر تأكد أهله من الخبر.

لم تنسَ أم عامر وصيته لها بالصبر، وحمدت الله على استشهاده.. وكان أخوه الكبير "علي" متماسكاً لدرجة تفوق تحمل إنسان عادي على فراق أخٍ كان يلازمه دائماً وأقرب صديق بالنسبة له، ويتذكر الوالد، بعد إشاعة خبر استشهاد عامر، ذلك الاتصال الذي ورده من علي حيث كان في طريقه من نابلس لطولكرم حينما هنأ والده على الهاتف بشهادة أخيه ولم يؤخرها لحين وصوله..

كان الاحتلال قد نفذ في فترة قريبة اغتيال جمال منصور، وجمال سليم أبرز قادة حماس في الضفة الغربية آنذاك، وبعد أربعة أيام من اغتيال عامر، انطلق الاستشهادي عز الدين المصري للقدس وفجر نفسه وسط حشد صهيوني في مطعم موقعاً 20 قتيلاً وأكثر من 100 جريح، وسميت العملية باسم المطعم الذي وقعت فيه "سبيرو" وأعلنت كتائب القسام أن العملية كانت انتقاماً لاغتيال قادتها والعديد من عناصرها منهم "عامر الحضيري"، وبذلك عرف أهله أنه كان عنصراً عسكرياً في الكتائب، فيما لم يشعروا بذلك يوماً.

بعد فترة وجيزة من استشهاد عامر، غادر أخوه "علي" المنزل وبقي في سكنه بنابلس، رآه والداه بعد غياب دام 6 أشهر حيث كان من الصعب جداً التنقل من مكان لآخر بسبب التضييق والحواجز العسكرية التي حولت الضفة وقتها لسجون متفرقة وقتها، وكانت وسيلتهما الوحيدة لرؤية ابنهما ركوب سيارة إسعاف لتقلهما إلى نابلس.

كانت زيارة سريعة، تمّت في الشارع حيث سلّم عليّ على والديه، قبّل يديهما واحتضنهما بشوقِ غائب وخوف مفارق! ولم يلبّ "علي" أمنية أمه بأن يمكث جوارها ليلة واحدة، بسبب الأوضاع المعقدة التي لا تسمح له بالتحرك لأي مكان.

كان الوداع في الشارع كما اللقاء.. فغادر علي بنظرات شوقٍ وتوقٍ لوالديه اللذين تركاه وعادا من دونه وقد أتعبهما الفراق الذي غيّب الابن الشهيد، والابن المطارد!

الاتصال الأخير
بتاريخ 322002

كانت الساعة تشير إلى السادسة إلا الربع صباحاً، حين رنّ الهاتف بعنف، وأجابت أماني، فقصف عليّ الكلمات سريعاً وأخبرها أنه في اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال ويريد أن يكلم أمه سريعاً، والتقطت أمه السماعة سريعاً.. وأطلق الوالدان والأخت سيلاً من الكلمات المشجعة لعلي الذي علا من حوله صوت الرصاص، وأخبرهم أنه محاصر وأكد لهم أنه قتل اثنين من الجنود وجرح العشرات، وبعد ثوانٍ قُطِعَ الاتصال، وغاب صوتُ عليّ قبل أن يترك لأهله المجال لاستيعاب الموقف، اشتباك مسلَّح.. عليّ الآن يحمل سلاحاً ويقاوم.. وهم لم يعرفوا يوماً أنه عسكري أو يتلقى تدريبات!

يقول كل من شاهد ذلك الاشتباك بأن عليّ كان وكأنه محاطٌ برجال يعاونونه في تصديه لعشرات الجنود الذين حاصروا البناية، بينما لم يكن معه أحد بعدما افتدى رفاقه وجعلهم ينسحبون ليبقى وحده في الاشتباك رافضاً تسليم نفسه، لم يترك سلاحه ولم تُرخ يده عن الزناد حتى استهدفته الطائرة بينما كان قد حوصر في شرفة الشقة التي شرعت الجرافة الإسرائيلية بهدمها وهو داخلها.

تسعة أشهر بين استشهاد الأخوين عامر وعلي الحضيري، رحلا كما رحل آلاف الشهداء خلال انتفاضة الأقصى التي طالت دمويتها كل بيت فلسطيني فحصدت أكثر من 4400 شهيد، وأكثر من 48 ألف جريح.. وعامر وعلي هما نموذجان من روايات فلسطين المخضبة بالدم، كانا دائماً سوياً لا يفترقان، وما بين اغتيال عامر واشتباك عليّ تجدد لقاء الأخوين في الجنة التي لا يوجد فيها ما يفرقهما مجدداً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد