كنت قد تحدثت في تدوينة سابقة عن "سوسيولوجيا التحالفات الدولية" وعلاقتها بتدوينة أخرى ذات صلة مباشرة بالسياسات والإجراءات والسياقات المعنية بآليات التعرف على "مجال القوى" بحسب الأنساق المناطة بها التعرف على "كيفية تغير ديناميات القوة في العالم" في إطار ما يُمكن أن نطلق عليه "حسّ اللعبة" بمفهوم بورديو، في داخل الأنساق الاجتماعية والثقافية وخارجها على مستوى الأفراد أو المجتمعات في مجالات متعددة،
والتي من الممكن أن تشكل مصفوفة هائلة من العوالم الجديدة التي تؤثر في تشكيل الهوية، وهذا ما يتطلب البحث عن الساكن والمتحرك من عناصرها، لا سيما عندما يكون هناك رؤية واضحة تتحدد من خلالها سمات الهوية الثقافية وعلاقتها بعملية التوظيف المعرفي للهوية وتسعى للبحث عن القوانين التي تحكم إنتاج الثوابت وبقاءها في إطار العوامل المؤثرة فيها، والتي قد تمثل أولوية قد تجافي الواقع، ولكن أياً كانت صحة الثوابت،
أو كفاءة استنادها على الواقع التاريخي، فشرعيتها تصدر من إجراءات ممارساتها التاريخية والاجتماعية، وشكل هذه الممارسة، وما تنتجه من خطابات سياسية وأيديولوجية وثقافية واجتماعية، أما قوتها فتأتي من التحلق الأيديولوجي لمجموعة كبيرة من الناس حولها، وهذا ما يمنحها صفة الحقيقة، وإن لم تكن في ذاتها تنتمي بأي شكل إلى واقع حقيقي على المستوى التاريخي في ظل فهم "جغرافية السلطة"، بما في ذلك سلطة الخيال؛ حيث إن بنية مفهوم الهوية على الفرد والجماعة لا تمر إلا من خلال دراسة الأمكنة المعترف بها للأفراد والجماعات.
أما بالنسبة للمؤسسات القائمة فقد سبب غياب رؤية واضحة للهوية العربية الثقافية بوصفها -في الوقت الحالي- واحدة من أهم الأولويات التي يجب الاهتمام بها في الاستراتيجية العليا للدول العربية مجتمعة في خلق تعارض بين اتجاهات حركات التنمية، سواء على مستوى الدولة الواحدة أو الدول العربية مجتمعة، فقد يقوم التأثير الحادث من أداء مؤسسة ما (الإعلامية) مثلاً بوقف فاعلية أداء مؤسسة أخرى (الثقافية) وهكذا.
كما يقوم أداء مؤسسة إعلامية عربية بإبطال مفعول تأثير مؤسسة أخرى في قطر عربي آخر -على سبيل المثال- الأمر الذي يؤدي إلى بذل الكثير من الجهد – لو افترضنا الإخلاص – والخروج بالقليل من المحصلة الكلية، على المستويين القطري والقومي، يُعد هذا العامل (تعارض الأداء بين مؤسسة وأخرى – سواء في الدولة الواحدة أو بين دول عربية وأخرى – بسبب غياب تصور استراتيجي كلي، متماسك، عن الهوية الثقافية التي يجب أن تتبناها المؤسسات كافة في الظرف الحضاري المعاصر) أهم مصدر -في رأيي الخاص- من مصادر تهديد أمننا القومي،
الأمر الذي حصرنا في حالة غائمة كانت واحدة من نتائجها المباشرة استمرار الذهنية المستلبة التي تتبنى القيم الثقافية التي تؤكد "استعمار العقل"، والشعور العام بالعجز؛ لتتحول هذه الثقافة الغازية تدريجياً إلى مثل أعلى في الوعي العام – بسبب هيمنتها على الوعي الجمعي بشكل بات يأخذ تدريجياً سمات الأسطوري – كما اتخذت هذه المقاومة على الجانب الآخر تجليات مختلفة، كان أبرزها تنمية الخطاب الثقافي السلفي في أشرس صوره، وأضيقها أفقاً، الأمر الذي أدى إلى خلق مواجهة زائفة – بمعناها العصابي – وعداء مجاني،
غالباً ما يكتفي بالرؤية القائمة على تشويه الآخر ورفضه من دون قدرة على وضع تصور للصراع معه، أو المناورة عبر فرض بدائل مواجهة صحيحة متناسبة مع رؤية حقيقية لطبيعة المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا على الصعد كافه، وعلى رأسها "حقل الهوية الثقافية".
وهذا ما يجعل الثقافة / الهوية وسيلة من وسائل حماية الذات ممّن تظنه الآخر من جهة، وأداة للسيطرة وللإقصاء أو التعرف أو للاعتراف من جهة أخرى، وبذلك يكون السياق التاريخي لأمة وواقعها الزمني والمكاني غالباً ما يُضمر واقعاً اجتماعياً لا يكف عن الاختلاف، ولا تتواقف ثوابته عن التغير؛ نظراً لأن الهوية تعد على المستوى المعرفي ثقافة في جوهرها تغذي الإحساس بالاختلاف.
وفي إطار تلك السياقات، نطرح قضية الحراك الإعلامي (الفضائي والإلكتروني) وعلاقته بتشكيل الوعي لدى المجتمعات (أفراداً أو جماعات)، وقد تكون المرحلة الراهنة معبرة عن تلك السياسات التي تنتجها بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وأصبحت مثار جدل واسع حول أولوياتها وخطها السياسي في فضاء تتقاطع فيه هويات مختلفة، لها درجات وعي متفاوتة.
وهكذا نجد أن بعض القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية الإلكترونية والمواقع الإخبارية تخدم السياسة العامة للدول التي تدعمها وتساهم في تمويلها على الرغم حياديتها أو مهنيتها بدرجات اختلاف قائمة على الممارسة الإعلامية، ففي القنوات الرسمية فإنها لا تخلو من وظيفتها السياسية بوصفها أداة في يد الدولة تسِمها بالثبات، وتختزلها إلى شعارات.
أما القنوات والوسائل الإعلامية الخاصة فلديها القدرة على الاحتفاظ باستقلالية نسبية ولها خصائصها المعنية بالمساحات الفكرية والثقافية والسياسية، التي تتقاطع فيها الأنساق المعبرة عنها لإحداث توازن معنوي مع القنوات الرسمية الممولة عبر الحكومات والدول الراعية لها، والتي قد تمثل "قوس تأويلي مشترك".
وقد تكون "وكالات الأنباء" و"بوابات الأخبار" واحدة من ذلك النهج التأويلي لا سيما في صناعة المعلومة وآليات صياغتها في اتجاهات متعددة، بحيث لا يمكننا على المستوى التوظيف الجمعي للأخبار أو المعلومة الصحفية أو الإعلامية الاستفادة منها بشكل تلقائي على أي مستوى من دون رؤية واضحة لهذا المتخيل، يصاحبه توظيف اجتماعي أو ثقافي أو سياسي ما.
ويرى كثير من المهتمين بهذا الشأن، أن الأسباب الظاهرة الكامنة لتداعيات الأزمة الخليجية الراهنة، وما يحدث في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا والعراق.. بعد انتهاء الوجه الأول لثورات الربيع العربي ما هو إلا توظيف أداتي للقوى المؤثرة والمهيمنة في الإعلام بمختلف وسائله وقطاعاته، كمحصلة مبدئية للنتائج التي تمخضت عنها تلك الثورات وأثرها في المنطقة العربية، لا سيما دول الخليج العربي،
في إطار "المنهج الخفي" لمشروع الشرق الأوسط الجديد، من خلال صناعة أفكار جديدة على شكل مواقف سياسية واجتماعية قد تحمل دلالات رمزية بصيغ مشاورات أو مفاوضات أو مباحثات أو أزمات سياسية أو حصار اقتصادي أو مقاطعات دبلوماسية أو مقايضات مبنية على حروب إعلامية بالوكالة، وما نجم عنها من تدمير للبنية التحتية وبروز إشكالية النازحين واللاجئين، وتأثير وسائل أو قنوات إعلامية على أخرى، وحجب بعض المواقع الإخبارية والإلكترونية، واختراق الحسابات الشخصية في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، والتي عملت على إعادة صياغة أفكار المجتمعات المستهدفة بحيث تكون قادرة على إنتاج استجابات لها ثبات نوعي،
في مواجهة الخطوات الاستباقية لتحديات التغير الديموغرافي الذي تخلفه الحروب أو العدوان، وقد تُسهم في خلق فضاء متخيل يضفي على تلك المجتمعات أو الأفراد شكلاً من أشكال التماسك والتعاضد الفكري والعاطفي المشبع بحس يهيمن عليه الولاء من جهة، ويرتبط "ماضوياً" بتاريخ يخلق تصوراً ذهنياً صنعته الجماعات المستهدفة. "فالخيال الرمزي المشترك هو عامل توازن نفسي اجتماعي على مستوى الأفراد والجماعات".
وبذلك يمثل الحراك الإعلامي (الفضائي – الإلكتروني) ومواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك وتويتر) نموذجاً من الصراعات من أجل الاعتراف / الرفض حول ملامح توجهات السياسات المستقبلية للدول المعنية، وقد تكون الدراما الأجنبية أو العربية أو الإسلامية على مستوى الأفلام الوثائقية والسينمائية أو المواقع الإخبارية والإلكترونية والمدونات عبر شبكة الإنترنت دوراً في إبراز مكونات هذا الصراع من حيث أهمية "المجال"، في ظل تسارع مفاهيمي متوتر لا يعرف استقراراً، لكنه قد يؤطر لسلوكيات معينة وتتجاذبه اتجاهات سياسية واجتماعية وإثنية وثقافية ونفسية مختلفة، الأمر الذي قد يخلق نوعاً من الاستقلالية النسبية في كل مجال من هذه المجالات.
وهكذا يمكننا التعامل مع مفهوم "حسّ اللعبة"، ونقترب من خلاله مع مفهومين من مفاهيم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو؛ الاستعداد "Habitus" والمجال "Champ".
* للتأمّل:
"إن فوكو لم يؤمن بماركس ولا بفرويد، لا بالثورة ولا بماو، وقد سخر من المشاعر التقدميّة الناعمة، وما عرفت له موقفاً مبدئياً حول المشاكل الجمة للعالم الثالث، والاستهلاكية، والرأسمالية، والإمبريالية الأميركية". بول فيين، صديق فوكو.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.