مَن أنا؟
ما حقيقةُ وجودي في هذا الكون؟
مِن أين كان هذا الكون؟ وإلى أين سيكون؟
شكَّلت تلك الأسئلة الوجودية السابقة أساس البحث الفلسفي الأول، ثم تشعَّبت عنه لاحقاً البحوثُ الأخرى التي تتناول كيفية معرفة صحة تلك الإجابات، وكيفية التعامل الأخلاقي معها بعد معرفتها.
وحين نمعن النظر في تلك الإجابات التي افترعها العقل الإنساني، سنجد فيضاً متضارباً يبدأ من التفسير المادي، إلى الروحي، إلى الثنائي، إلى الحيوي، إلى المثالي، إلى آخره من لجاجة هذا العصف؛ لنصل حديثاً إلى التفسير الوجودي الذي تطرَّف في تقديس الوجود الإنساني، وأنكر العدم، واستنَّ حيلةً مبتكرة حين اعتبر وجود الإنسان سابقاً لماهيته، فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى السكين، سنجد أنها قد خُلقت لتقطع، وسنجد أن الباب قد خُلق ليُغلَق، وعليه فقد توصل الوجوديون إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا هوية ولا غرض سابقاً لوجوده، وبالتالي فهو من يصنع هويته وقيمه وأهدافه بنفسه، متحرراً بشكل كامل من كل موروث سابق، ممسكاً بالشك المطلق المنكِر لكلِّ حقيقة، ومستقياً التجربة الروحية والحدسية كمصدر معرفة رئيسي.
ولا ريب أنَّ هذا التطرُّف الذي لا يستطيع تكوين ملامح فلسفية واضحة لن يجد له مكاناً مزدهراً سوى في الأدب، الذي هو حالة انفعاليّة تستعرض الأسئلة والمشكلات، قبل أن يكون تجربة معرفية تقدم الإجابات والحلول.
ومثل كل فلسفة أو دين يعوض عن إسكات صوت العقل برفع عقيرة صوت القلب، فقد أصبحت الأعمال الشعرية والروائية جهاز التنفس الاصطناعي الذي استمرَّ من خلاله المذهب الوجودي في إبراز نفسه والبقاء حياً؛ لنصل هنا إلى الروائي الفرنسي الشهير (ألبير كامو) في روايته بعنوان "الغريب"، التي صدرت في خمسينات القرن الماضي، والتي اشتهرت كأمثولة لهذا المذهب، وما زالت مقروءة حتى الآن.
وعطفاً على تلك المقدمة السابقة الضرورية، فقد يتخيلُ القارئ الآن أن هذه الرواية محمَّلة بخطب أيديولوجية وشعارات فلسفية تصلح للاقتباس والتقنين، لكنه سيصدم عند قراءة هذه الرواية، وسيتعجب كيف استطاع هذا الروائي بسحر عجيب أن يحوِّل النظرية الفلسفية إلى قصة مشوقة خالية من التصنع، عفوية في سرد أحداثها.
ويجسّدها في سيرة ميريسيو ذلك الشاب الفرنسي الذي يعيش في الجزائر؛ ليلقي الضوء على مرحلة جزئية من حياته تمتد لعدة أشهر، يجد نفسه من خلالها متورطاً في سيرورة أحداث تقوده مستسلماً لها.
تبدأ الرواية بهذا الشاب، الذي لا يخبرنا شيئاً عن ماضيه سوى أنه اضطرَّ لترك دراسته ووضعِ أمه في ملجأ، وهو يتحدثُ عن نفسِهِ بضمير المتكلِّم، لكنَّه بطعم الغائب، وكأن المتحدّث شخصٌ آخرُ خارج نطاق الأحداث، عندما نرى تلك اللامبالاة الفادحة التي تسكنه تجاه كل شيء، فهو يتلقَّى خبرَ موت أُمه، ثم تتوالى لاحقاً الأحداث في هذه الرواية القصيرة ذات الـ150 صفحة، وفيها نجد أنه يفعل أيَّ شيء يخطر له، أو يطلَبُ منه، والسبب ببساطة هو عدم وجود سبب يمنعه من ذلك، فهو يعمل ويحبّ ويقبل الزواج، ويضحي ويقتل ويسجن لعدم وجود سبب يجبره على عكس ذلك؛ لتنتهي الرواية بوقفته اللامبالية أمام فكرة الموت.
من ذلك الشخص؟ وما حقيقة هذا الوجود مِن حوله؟
يتجلَّى ذكاء هذا الروائي المحترف في نسج الشخصية التي تخدم فكرته الفلسفية الوجودية، فنرى من سيرورة الأحداث أن هذا الشاب أسير لحظته المعاشَة ووجوده الآنيّ فقط، ولا يفكر سوى في الساعة التي هو فيها كما يقال، ويصف بتفصيل غريب وبإسهاب مرهق الكثيرَ من التفاصيل الحسية للمشاهد حوله، وكأنها أشياء غريبة عليه وهو جديد عليها، أو كأنه طفل لم يفكر بعد بأسئلة الحياة الضاغطة وما زال يتلقاها منبهراً بأدق تفاصيلها.
وهو أيضاً لا يتحدث عن مشاعره الداخلية إلا كانعكاس للّحظة الحاضرة وشروط المكان الفيزيائي الذي يحيط به، ويسهب بتبلّد غريب في ذلك، كآلة تسجيل بكْمَاء تنقل بصورة ميكانيكية ما يجري أمامها دون أن تتأثّرَ به، وحتى حين تفيض مشاعر الآخرين حوله سنراه يتفاجأ بروحه التي استعادت للحظة فطرتها، ويتصنَّع الاندهاش تماماً كالساحر الذي يندهش من خروج الأرنب من القبّعة.
حين تموت أمه تتساوى عنده الحياة قبل موتها وبعده، وحين يصطدم بقرار الزواج تتساوى عنده النساء، حتى مع حبيبته وحين يدخل السجن تتساوى عنده الحياة في داخله مع خارجه، ولعل أكثر لحظة مضحكة هي عندما يكون في قاعة محاكمته متململاً، وفي تضاعيف لهاث محاميه للدفاع عنه أمام الادعاء والمحلفين نراه يهتم بأصوات الباعة المتجولين خارج أسوار المحكمة، لا حنيناً للحرية، بل استجابة لغرابة صوتهم عن المشهد.
ويبقى السؤال الأساسي الذي نخرجُ منه بعد قراءة هذه الرواية: هل هذه الشخصية قابلة للتجسُّد في لحم ودم نستطيع أن نراها ونصادقها في حياتنا؟ وأكاد أجزم أن كلَّ النجاح في تخليق هذه الشخصية وقصة الأحداث المناسبة لن تغطي على استحالة العثور على شخص كهذا في حياتنا، وإن وجدناه فسنراه متقنعاً بتلك البوهيمية كقناع مؤقت في النهار، يخلعه في الليل، لكن ألبير كامو يأبى إلا أن يجسِّده ويظهر عفويته في التعامل مع الجميع من حوله، ويمعن في تلقائيته حتى إنه يلتمس المبررات العفوية لجريمة القتل التي ارتكبها، ويظهر لنا أن القاضي الذي يمثل المجتمع قد حكم عليه بالإعدام، ليس بسبب جريمة القتل الآنية بحد ذاتها، بل بسبب غرابة شخصيته.
يضطرنا الكاتب مرغمين إلى إعادة التفكير في أسئلة الوجود الكبرى التي وضعتُها في البداية، والتي أجاب عنها البطل بأن كل شيء في الحياة عبث بعبث، وتجلَّى الجواب في تصرفاته الغريبة أولاً وفي الجمل المدسوسة بذكاء في تضاعيف الرواية، وخصوصاً في الفصول الأخيرة، لكننا نعلم أننا إذا وقفنا أمام تلك الأسئلة الكبرى ووجدنا آلاف الإجابات المتضاربة، فهذا لا يعني عدم صحة السؤال أو استحالة أو عبثية الحصول على جواب، بل العكس تماماً، فذلك يعني أهمية الأسئلة وحتميتها الغريزية من جهة، وضرورة البحث عن الإجابة من جهة أخرى.
وحين نرى إعجاب الكثيرين بهذه الرواية، سنرى أن إعجابهم هو مشاركة لبطلها في حالة الهروب البهيميِّ من ضغط تلك الأسئلة، ويمكن أيضاً أن نراه مشابهاً للّجوء إلى مجموعات الدعم النفسي الجماعي؛ ليشاركوا هذا البطل قلقهم الوجودي في الافتقار إلى الإجابة التي حسمها الإسلام بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لَيَعْبُدُونِ).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.